فاجأ رئيس الحكومة اللبنانية المستقيل سعد الحريري اللبنانيين بالتريث في الاستقالة، بعدما طلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ذلك أمس، مثلما فاجأهم حين أعلنها في الرابع من الشهر الجاري، ما فتح الباب على تكهنات كثيرة بأن الاستقالة باتت معلقة، أو أن تسوية ما يجري التحضير لها، لعلها تؤدي إلى التراجع عنها، فيما وصفت مصادر مقربة من الحريري التريث بالقول إن «الدقة تقتضي اعتباره نوعاً من التقاط الأنفاس من أجل التشاور لمعالجة العناوين التي أدت إلى الاستقالة وأبرزها النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية وتدخلات إيران وحزب الله في الدول العربية». وامتزج الاحتفال اللبناني الرسمي والشعبي بالذكرى ال74 للاستقلال أمس في عرض عسكري للقوات المسلحة، باحتفال جمهور الحريري بعودته بعد غيابه 19 يوماً عن لبنان ومضي 18 يوماً على تقديمه استقالته، في حشد شعبي وحماسي لمناصرين تجمعوا في منزله وفي الشوارع المحيطة للتضامن معه، قُدر عددهم بعشرات الآلاف، ما اعتبره قياديون في «تيار المستقبل» تجديداً «للتفويض الشعبي له ولزعامته حول السياسة التي يتبعها»، والتي وردت في كلمتين له أمس، وتقوم على «حماية الاستقرار والنأي بالنفس». وظهرت أسلحة جديدة للجيش اللبناني أثناء العرض العسكري التقليدي، أبرزها طائرات «توكانو» وصواريخ نوعية دقيقة الإصابة، وعربات مدرعة من نوع «برادلي» الأميركية وأخرى قتالية استخدمها في قتاله ضد تنظيم «داعش» في عملية «فجر الجرود» في أيلول (سبتمبر) الماضي. وتحول الحريري إلى نجم الاحتفالين الرسمي والشعبي، إذ حرص كل من رئيس البرلمان نبيه بري والرئيس عون على تقبيله والترحيب به بحرارة فور وصوله إلى المنصة الرسمية للعرض العسكري، بعد عودته منتصف ليل أول من أمس إلى بيروت. واختلى به بري في السيارة من بيروت إلى القصر الرئاسي لمشاركة عون في حفل الاستقبال الذي يقيمه سنوياً في عيد الاستقلال قبل أن يجتمع الرؤساء الثلاثة لبعض الوقت ثم يختلي عون بالحريري لنصف ساعة، تلا بعدها رئيس الحكومة بياناً مكتوباً مما جاء فيه: «عرضت استقالتي على فخامة الرئيس، وتمنى علي التريث في تقديمها والاحتفاظ بها لمزيد من التشاور في أسبابها وخلفياتها السياسية، فأبديت تجاوبي مع هذا التمني آملاً بأن يشكل مدخلاً جدياً لحوار مسؤول يجدد التمسك باتفاق الطائف ومنطلقات الوفاق الوطني ويعالج المسائل الخلافية وانعكاساتها على علاقات لبنان مع الأشقاء العرب». وكان أنصار الحريري وتياره يتجمعون منذ الصباح قرب منزله حاملين الرايات والأعلام اللبنانية، وقدِموا من مناطق عدة ومن بيروت ومحيطها للتضامن معه، في استنهاض جماهيري لشعبيته شهد الكثير من اللحظات العاطفية، لا سيما عندما أطل الحريري على الحشود وألقى كلمة مكتوبة ثم انتقل للاختلاط بها في الشوارع في محيط دارته. وخاطب الحريري المحتشدين الذين هتفوا باسمه قائلاً: «هذه لحظة لا يمكن أن أنساها. هذه لحظة اللقاء مع الأحباب، مع الرفاق، مع الأهل الحقيقيين». وكرر أكثر من مرة شعاره «لبنان أولاً»، وأضاف: «أنا باق معكم ومستمر معكم، لنكون خط الدفاع عن لبنان وعن استقراره وعروبته». وأطلق إعلان الحريري التريث في الاستقالة التأويلات حول أهداف الخطوة، فيما انعكس ارتياحاً مالياً لتقدير أسعار السندات المالية في الأسواق الخارجية. وفي وقت ذهب بعض الأوساط إلى ربط الخطوة بانتظار تطورات ومداولات خارجية حول أوضاع المنطقة قد تنعكس على الدور الإقليمي ل «حزب الله»، ربطاً باللقاءات التي أجراها الحريري مع كل من الرؤساء الفرنسي إيمانويل ماكرون السبت الماضي والمصري عبد الفتاح السيسي والقبرصي نيكوس أناستسياديس أول من أمس، فإن أوساطاً سياسية أخرى رأت فيها ترقباً لجهود روسيا من أجل الحل السياسي في سورية لعلها تقلص دور الحزب في الإقليم. إلا أن مصادر محيطة بالحريري أوضحت ل «الحياة» أن «لا معطيات واضحة عن وساطات في هذا المجال، لكن هناك قادة الدول الكبرى والعربية الذين قابلهم الحريري في الأيام الماضية وقبلها في الأشهر الأخيرة، متفقون على قواعد أساسية هي رفض تدخلات إيران في المنطقة واقتناعهم بأن حزب الله يحمّل البلد الصغير أكثر مما يحمل، ويركزون على عنوان محوري هو تجنب أي مشكلة في لبنان، لكن لا يجوز أن يستمر الحزب في ابتزاز الفرقاء اللبنانيين الآخرين لأنهم يريدون تجنيب البلد أي عمل يهز الاستقرار». وأوضح المصدر أن الحريري سيوضح اليوم أثناء ترؤسه اجتماعاً مشتركاً للمكتب السياسي لتيار «المستقبل» ولكتلته النيابية، حيثيات التريث وظروف المرحلة. ورداً على سؤال عما إذا كان التريث في الاستقالة كان اتُفق عليه قبل لقاء الحريري مع عون (وبري قبله)، لفتت المصادر إلى أن «التريث لم يأت ابن ساعته، لكن لم يتقرر منذ مدة طويلة وجاء نتيجة اتصالات سبقت الاجتماع مع عون». وتابعت المصادر: «إلا أن التريث له وظيفة، وهو ليس لتعويم الاستقالة بل مرتبط بالآلية العملية لتطبيق المبدأ المركزي، أي النأي بالنفس عن الصراع الإقليمي. وهو لا يعني أن الحريري يترك الأمر للرئيس عون، بل المقصود به أن يجري تشاوراً معه ومع الرئيس بري، وكيف يمكن توسيع التشاور لإيجاد حلول، لأن الأزمة أنتجت عناوين لا يمكن التعامل معها بالقفز فوقها وتجاهلها بل بمعالجتها. والتأويلات بأن الاستقالة علّقت ليست صحيحة». واستشهد مصدر مطلع على موقف الحريري بتغريدة لوزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش أمس، قال فيها: «إن خروج لبنان من أزمته والأزمات الإقليمية (يكون ب) أقله التطبيق الحرفي لمبدأ « النأي بالنفس «، والمعضلة الأساسية أمام ذلك هي التطبيق الانتقائي للمبدأ والدور الوظيفي الإيراني ل «حزب الله» خارج الإطار اللبناني». واعتبر المصدر أن «كلام الوزير الإماراتي دقيق جداً» ولم يستبعد أن يكون من بين الخيارات التي قد يلجأ إليها عون لمحاولة تطبيق النأي بالنفس، الدعوة إلى حوار وطني حول ذلك، مشيرة إلى أن الحريري سبق أن دعا إليه في بيان الاستقالة ثم في مقابلته التلفزيونية. ونفى المصدر بالكامل التأويلات عن أن هناك مهلة أسبوعين للتريث في الاستقالة، وقال: «ليس بنية الحريري التسبب بأزمة حكومية أو بتعطيل عهد عون، بل يريد معالجة مشكلة واضحة في علاقات لبنان مع الدول العربية ولا سيما الخليجية، نتيجة تدخلات حزب الله في شؤونها، إذ لا يجوز وضع لبنان في خلاف معها لكلفته على الاستقرار السياسي والاقتصادي ومصالح اللبنانيين فيها، ومن هنا دعوته في كلمته إلى أن يتحمل كل الفرقاء المسؤولية عن ذلك من دون كسر أحد ومن دون تجاهل الحاجة إلى تطبيق النأي بالنفس، إذ لا يجوز أن يبقى مجرد شعار في البيان الوزاري». واستكمل الحريري نهاره الطويل أمس بلقاء بري ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، وقال إنه شكر دريان «الذي هو مرجعية للجميع، على مواقفه، خصوصاً أنه حصن الوحدة الوطنية ووجوب أن يبحث اللبنانيون عن الاستقرار، وهذا الدور قام به بامتياز». أضاف: «اليوم حصل استمهال من أجل مشاورات، وسأقوم بمشاورات ورئيس الجمهورية سيقوم بمشاورات والمهم أن نضع مصلحة لبنان قبل أي شيء». وفي نيويورك غرس الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أرزة من لبنان في حرم مقر الأممالمتحدة، بمشاركة السفير اللبناني نواف سلام أمس، وبالتزامن مع إحياء لبنان ذكرى الاستقلال. وأشاد غوتيريش «بدور لبنان الحيوي في الأممالمتحدة على مختلف الصعد» معتبراً أن الأممالمتحدة «تتشرف بوجود أرزة لبنان في حرمها، وهي باعتبارها رمزاً للقدرة على الصمود، تشكل إضافة رائعة في حديقة الأممالمتحدة». وأكد غوتيريش أن الأرزة اللبنانية «هي هدية من لبنان وتمثل مؤشراً آخر الى التزام الشعب اللبنانيالأممالمتحدة، خصوصاً أن لبنان يؤدي دوراً دينامياً في الأممالمتحدة بمختلف أجنداتها». وأشاد بالسخاء والكرم اللذين أبداهما لبنان في استضافة اللاجئين من سورية والمنطقة، مجدداً الدعوة الى «المجتمع الدولي لدعم لبنان في مواجهة هذه التحديات، من منطلق المسؤولية الدولية». كما هنأ غوتيريش السفير سلام على فوزه أخيراً بمنصب قاض في محكمة العدل الدولية. وأكد سلام على دعم غوتيريش والأممالمتحدة «سيادة لبنان وسلامة أراضيه خلال العقود الماضية» مقدراً قبول غوتيريش الهدية المتمثلة بأرزة لبنان.