لا يترك الشاعر زكي الصدير لقارئ ديوانه «حانة»، الصادر عن دار «طوى للنشر والإعلام» فسحة للتأويل، بعيداً عما يريده الشاعر ذاته، فالحانة عند الصدير «وطن»، و«ليست حانة إنما قصة عن الحانة» ثم يعود مصراً «الحانة وطن»، ولكن مع قليل من الشك «للوطن سلال من الماء، وللماء شبهة لا تقيك إلا من تأويل العطش». هل الوطن يسبب عطشاً؟ وبما أنه حدد ملامح «حانة – وطن»، أوضح في مطلع ديوانه: «من باب العلم بالشيء هذه ليست حانة حقيقية، إنها وطن حقيقي، وسيأتي عابر سبيل ليقول: العبارة مجاز واللغة انزياح»، ولكنه «هراء»، كل تأويل آخر غير ما أراده الشاعر يتحول إلى هراء. تتناقل كؤوس الحانة 126 صفحة من القطع المتوسط، تضم بين طياتها 45 نصاً، هكذا أراد الصدير أن يصف مولوده الثالث ب«نصوص»، ممهداً لوجود نصوص نثرية، إلى جانب القصائد الشعرية، ورافعاً عتباً «كثير ما تردد على ألسنة المحيطين بي لماذا نصوص؟ لماذا لم اقل انه شعر كما يفعل كل الشعراء حين يسمون دواوينهم؟ يبرر «أردته حاوياً لكل ما يرد فيه، وفي الأخير القصائد ما هي إلا نصوص»، وأخيراً «الاشتغال بأكثر من هندسة على اللغة». ولأنه أصر على كون «حانة» وطناً لم يهتم بالمكان، فكل حانة وطن، حتى لو كانت في نيويورك أو بريطانيا أو باريس، يدل على ذلك عناوين قصائد تحمل أسماء حانات أجنبية، ولعدم وجود اسم حانة عربية، اختار لبقية القصائد عناوين حالمة، مثل «بيانو على شرفة القلب»، «السلطانة»، «معطف لبلاد الشمس»، «كرسي اعتراف»، ويرى أن «الأسماء لها علاقة بذاكرة المكان المفترضة». وعلى رغم الدخول إلى «الحانات» من الأبواب، فضل في ديوانه أن يكون عبر «النوافذ»، مستفتحاً بنص نثري «عصفور طل من الشباك»، الذي بدأه ب«نافدتي التي تنتظر المطر». وعنون أولى الحانات ب«نافذة الاستئذان»، وضمنها ستة نصوص، ويعقبها «نافذة الانتظار» بثمانية نصوص، و«نافذة الوصايا»، ب 16 نصاً، و«نافذة الفرجة» بأربعة نصوص. ولكونه في «حانة» ابتعد عن أن يسمي قائمة المحتوى ب«الفهرس»، وإنما باسم يتماشى مع روح الديوان، وعنون المحتوى ب«طقوس الحانة». يتذكر رواد أمسيات فرع جمعية الثقافة والفنون في الدمام، غناء الفنان محمد الحلال لنصوص من حانة، ولا يرى فيها الصدير «مغازلة ودعوة للمطربين»، ف«القصيدة بالنسبة لي حبيبتي، لهذا أقدسها وأتعامل معها كملكة، وككل وككل الملكات يحدث أن ترفع مزاجاتها ببعض الموسيقى، كما أن الموسيقى لها سحرها الخاص، وإذا امتزج بالقصيدة سيجعلها أجمل وأنقى، فيتكاملان معاً، وهذا ما شعرت به حين قدّم الفنان محمد الحلال مع فرقة «آفان» للفنون نص «حانة» و«غريبان» و«رقصة الشال»، إنه تماهي الكلمة في الموسيقى والعكس. ولا يمتنع أن يصف ذاته والواقع بالنزق والطيش، بل «أعتقد أنني والنص والواقع في النزق والطيش ذاته، ولا أعتبر النص هروباً، ولكن وعلى افتراض أنه هروب ما، فهو هروب من واقع إلى واقع آخر يؤثثه خيال الكتابة، الكتابة مغامرة شجاعة في عالم جبان، فالنص الجريء يفرض ذاته وإشكاليته وانسيابيته، ينفتح كيفما يريد بكل اتجاه ويوسع الرؤى والمفاهيم، ويغير فينا ومنا وبنا. لهذا لا أعتبر الأمر اتجاهاً، إنما عفوية أثق بقدرتها على استخلاص ذاتي الورقية بشكل يرضيني إلى حد ما». ويبقى ذلك الطيش مقروناً ب«الشعر قضية في حد ذاته». ويرى أنه «لا يوجد شاعر حقيقي ليس صاحب قضية، لهذا أرى أنه حتى عبثية الشاعر لا تخلو من الجدية، كما أن جديته تجاه العالم ومحاولة تغييره أو تأثيثه بالكتابة فيها من العبثية الكثير ومن السخرية تجاه العالم الكثير أيضاً». وعلى رغم أن الحانة تحلو بوجود الصحبة، لكن الصدير يرفض تقاسم مشروعه الإبداعي مع أحد، ويرجع ذلك إلى أن «الكتابة مشروع ذاتي ينتهي وتختفي ملامحه إذا تماهى في تيار أو نهج أو دخل قالباً ما، الكتابة حرية وأؤمن بضرورة بقائها كذلك، أما مسألة الأجيال فقد ألغيت منذ زمن، ولم يعد هناك من يستعمل هذا التمييز العنصري الزمني، لأن الشعر أكبر من الزمن، ولأن هذه التصنيفات الزمنية ما هي إلا مؤشر للدخول في التكنولوجيا من عدمها». ويعكف الصدير على عمل جديد اختار أن يكون عنوانه «منسيون»، ويوحي بنقلة من عالم الأوطان إلى عالم آخر لا يشاركه فيه أحد غير الذاكرة. ويوضح: «ما زلت أشتغل عليه، وأستحضر نفسي حيناً فيه، ويستحضرني هو في نفسه حيناً آخر، وبين النسيان والذاكرة سيكون لي معه الكثير من الاشتغال، حتى أتمكن من تحديد ملامحه وملامح عالمي في عزلتي وعزلته، فهذه التجربة تحاكي ذاكرة الجدران وسطوتها لست سنوات من الاعتكاف الإجباري في السجن، لهذا فإن تجربة «منسيون»، تسكن منطقة مظلمة بين الشعر والسرد في محاولة واعية جداً للتخلص من البلاغة بكل سطوتها، فحين تصرخ من شدة الألم، لن تفكر أبداً في أذنك الملتهبة، وفي «منسيون» سأقف وقفة وفاء خاصة لوطن وشعب وأحلام ورفقة منسيين».