ومن دون أدنى درجة من القلق من الوقوع في احتمالات الخطأ العالية - أن الجنوب نجح في البقاء جنوباً محصناً من زحف كتل الأسمنت، والبشر غير القابلة حيواتهم لأن تتحول إلى رواية. وكأن أطواق الورد على رؤوس الجنوبيات وغزلهن العنيف «الله يطعني» تعويذة ضد كل احتمالات غزو الأرقام والجداول الإحصائية لهذه الأراضي الموزعة بين السراة وتهامة. ولعل طاهر الزهراني في رواية «الفيومي» نجح في تأكيد ما يرددنه «كهيَل» الجنوب أن الرجل لا يسقطه الجوع، لأنه يمضغ الحجر ولا يأكل «ذبيحة» الغدر، ولا النوم، لأنه يعرف أن وراءه نوماً لا يستيقظ منه إلا بملك ينفخ ببوق ضخم، ولا يسقطه العدو، لأنه ينام بجنبيته، لكن تسقطه الجميلة، تلهيه عن نفسه وتنهكه بين ربلتها وخلخالها! * «عطية الفيومي» رغم إسقاطه عدوه - الذي أضاف فلق الجمجمة للقائمة الطويلة لأخطار التدخين - وبعد أن فشل أيضاً في القيام بدور محاسب المستودع، غادر ذلك كله وكأنه يقول «حلم يملأ اليدين إلى حد يصعب معه للرجل أن يحمل أخلاقه لا حاجة لي به»، فترك حياته تلك لحياة أخرى لا يضطر معها لقتل أحد، حيث يدشن الصباح وحده بإبريق من الشاي المُنكّه بالزهور البرية، والذي تحتاج لإتقانه لاتباع دليل «الزهراني» الذي يقع في ثلاث صفحات، تتلوها ملاحقة الوبارة والحجل، والسعي لإعادة النحل إلى خلاياه بعد أن تركها احتجاجاً على هجرة الجنوبيات إلى المدن الأخرى بحثاً عن الراتب، وانتهاءً بالتأمل في سماء لم يكن يعتقد أنها قد يأتي يوم و«تنظر بزرقة باردة»، حتى أتت «غالية» ابنة شيخ القبيلة، ف«غالية» مطمع الفرسان من شباب المدينة وشباب القبيلة، شباب المدينة المتسلحين بمصطلحات إنكليزية وشهادات عليا وأملاك أتت بعد كفاح، وشباب «الديرة» أولئك الذين يتبارزون بينهم بإتقانهم «العرضة» وقدرتهم على إسقاط «المروة» التي تمنعت على بنادقهم بمعونة الشمس والريح، حتى يحين دور «عطية»، ذاك الذي لم تكن علاقته مع الحياة إلا رفضاً متبادلاً، ليعلن شيخ القبيلة أن «الفيومي» أصابت طلقته قلب «غالية»، وعلقت عجائز القرية أن الحياة لا تكافئ الرجال سوى بفتاة كغالية، لكن فرحه لم يجاوز عمر طلقات الفرح! وكُتب على «عطية» أن يعود للعراك، فأحرق المنافسون خلايا نحله، وأبادوا غنمه، لكنه مادام يملك «غالية» فكل شيء آخر قابل للاستبدال. ثم لما سرقت هدية السماء منه توحش، «ركب الجبال» اعتزل، واجه المدينة الزاحفة وحده، لكنه وككل رجال القرية تعميهم شجاعتهم عن أن في الأرض أعداء أكثر مما في بنادقهم من طلقات، فسقط و«كان آخر شيء باشر الأرض بعد الرصاص المسكوب، دم الفتى الذي نزف ذاكرته بكرمٍ جنوبيٍّ مشهودٍ في الوادي، الذاكرة التي تنتظر السيل، علَّه يجرفها للبحر، فيعرف البحر قدر الجبال». * عطية لم يكن في رواية طاهر الزهراني سوى رمز لرفض المدينة بكل ما فيها من العلاقات المجردة من القيم، والمبنية على حسابات الربح والخسارة، المدينة التي ينتصر فيها المكر الباسم على الشجاعة الحادة، المدينة التي يتكتل الرجال حول الظافر منهم، ويعتزلون من لم يكن له من الحياة سوى الخراب، المدينة التي يلكم فيها الرجل قرينه بيد من مخمل، المدينة بكل ما فيها من التنافس ووهم الأهمية الكاذب ورفض الفجر، المدينة المبخرة صباحتاها بشتائم السائقين، والشاي المعد من آسيوي يعمل براتب لا يسد الرمق، المدينة التي تنهك أهلها بالوعود اليومية فتقول: «قد تدركون الحياة اليوم فقط، فكونوا أقل أخلاقية، وأكثر سرعة»، المدينة التي لم يعد أحد يستطيع رفضها حتى «عطية» نفسه، فقد لحقت به في القرية بهيكلها الحديدي المرصص ب«هياس» ورفاقه، فدلقت الشاي، وقتلت «غنّام»، وسرقت «غالية».