يلح عليه طيفُها على نحو يؤرقه. على رغم الحنين الجارف لأيامهما معاً ينتابه ضيقٌ مبهم يكدر حياته ويعصف بسكينته كلما ألحّت على فكره. زياراتها الخاطفة المتباعدة تخيفه أكثر مما تروي ذلك الظمأ المتربص في أحشائه. أتته آخر مرة في أبهى زينة؛ ترتدي ثوباً صيفياً يلائم بشرتها الحليبية، وتعقص خصلات شعرها بالهيئة التي رآها عليها في أول لقاء. يحبها في هذه الهيئة، يرتعش قلبه- الآن- للذكرى وتأخذه رعدة. يتخلى عن التحفظ الذي عملياً قتَلَ علاقتهما؛ لم يعبأ بتمرد نظرة الإعجاب التي طالما عربدَت وراء جفنيه كلما رآها. كان حريصاً في ما مضى على دفن تلك النظرة تحت تلة من التأفف وادعاء الضجر. أليس يعرفها- يعرفهن- بالقدر الكافي؛ كائنات يطلبن الإعجاب. سمح لنظرته هذه المرة بالإفلات من محبسها والتمدد باتساع عينيه. يرمقها بشوق مفضوح، تأخذه النشوة فتنبطح مشاعره كلية تحت أقدامها ويقر في كلمات لا لبس فيها كم يفتقدها. حسبها ستسعد وترضى. كانت تلك شكايتها دائماً: «ضنين أنت... حتى بالكلمات التي لا تكلفك شيئاً». لكنها تغيّرت. لم تعد الابتسامة ترضيها ولا نظرات الإعجاب تروضها ولا كلمات الحب ولا حتى مشاعره– التي تعلّمت الصدق- المسكوبة تحت قدميها. أخذت تتماوج أمامه بقامتها الممشوقة كما راقصة باليه، وترميه بنظرة تحير لبَّه ويوجف لها قلبه، لا عتب فيها ولا رفض ولا قبول، يسبح فوقها معنى لا يميزه؛ أهو الأسى أم التشفي أم الغضب أم اللامبالاة أم مزيج جهنمي منها جميعاً؟ يلسعه هذا الذي يراه ولا يميزه لسعاً موجعاً. يصرخ فيها بلا صوت، يجذبها نحوه في ضراعة عاجزة، وهو يعوي. لكنها تركته. ألقت عليه نصف ابتسامة هازئة ونصف تقطيبة حاقدة ومضت. لم ينم ليلته؛ ولا الليالي الأخرى التي تلت. لعنَها في داخله المحترق. «لتذهبي إذن إلى الجحيم أو إلى حيث شئتِ. لا آبه». ادعى اللامبالاة، تشاغَل بما لا يشغل، استعرض خططه الشيطانية للعقاب الذي سينزله بها حين تعود. أحكم خطةً وانتظر. حين سأم الانتظار قرعَته نفسه بمقرعة التأنيب؛ لم لا تحادثها؟ توبخها؟ تسألها؟ تعاتبها؟ تتوسل إليها؟ بعد ملاحاة، نحى كبرياءَه المحتج وأزاح غطاءً ثقيلاً يرسم حدود إقامته على السرير المنبعج التضاريس. حملَ ساقيه على الحركة؛ رفعَ الأولى بيديه ووسّدها على الأرضية الباردة وارتدّ إلى الأخرى يعينها على النزول. حين اطمأن إلى ارتكاز قدميه على الأرض، امتدت ذراعه إلى الطاولة القريبة يرمي عليها ثقلَ جسده. أخيراً انتصبت قامتُه. رفعَ رأسَه وتوجّه بخطى وئيدة نحوها. اقترب منها شيئاً فشيئاً. حدّق بعينين كليلتين. لم ير إلا خيالات تتراقص. مد يده المتيبسة الأصابع يحتضن ملامحها. غامَت الملامح، أفلتت مِن تحت أصابعه. اقترب أكثر، راغَت الخيالات وتمدّدت كحاجز أسود يفصلهما. تنهّد حسيراً. «ماذا حلّ بكِ؟ لماذا المراوغة؟ لماذا تصرين على مخاتلتي؟» لم تجب. تملّكه غضبٌ أخرق: «إياكِ والتلاعب بمشاعري؟ تعرفين ما أعني؟ تدركين كيف هو بطشي حين أثور؟». واصَلت الصمت. ازداد غضبه اهتياجاً، أراد أن يفتك بالصورة المعلّقة على الجدار المتآكل ذي الدهان الذي ذبُل لونه. رفع ذراعه ليقتلعها من الجدار ويطيح بها من حيث قبعت عشرين عاماً. لم يطعه ذراعه الطاعن. تداعت ساقاه. خمد غضبُه فجأة. واستسلم.