في المقعد الخلفي لتاكسي يقطع بهما الطريق من الفندق إلى المطار جلسا صامتين. اقتربت منه لتستكين في حضنه فتزحزح مبتعداً بمقدار نصف المسافة التي زحفتها. لا يريد أن يغضبها أو يغضب السائق الذي يراقب في المرآة تلامس كتفيهما، ويتتبع تشابك أصابعهما. ليس في تلصص السائق ذئبية المتحرش ولا زجر المتزمت، بل محض فضول. يحوم بعينيه في المرآة، وعندما تلتقي بعيني الكهل يخفضهما باستحياء ثم يرد بصره إلى الطريق أمامه، لكنه بعد لحظة يعاود استراق نظرة. فهمت الفتاة نوع الفضول الذي يحير السائق، فتولت بحسمها المعتاد توضيح الأمر؛ كي ينتبه إلى الطريق ويتركهما وشأنهما. طوقت الكهل بذراعيها، ثم أدارت وجهه نحوها وطبعت على فمه قبلة. اعتادت على فضول الآخرين عندما يرونهما معاً في أي مكان، واعتمدت القبلة جواباً شافياً. تبدو مستريحة إلى خيارها، بينما يفضل هو أن يترك الآخرين يموتون بفضولهم من دون أن يعترف. اعتادت الجلوس على ركبتيه على مقاعد الحدائق العامة، العبث في شعره، الكمون في حضنه، وخطف بوسة من خده. أشياء يمكن أن تفعلها فتاة مع أبيها. تراقب ردود فعله القلقة، وعندما تراه مستريحاً لأن الآخرين لا يزالون في منطقة الشك، تستدعي كل شغبها الطفولي، وتطبع قبلتها الحاسمة. قبلة على الفم، وتراقب بشيطنة نظراته المتوددة للآخرين. يستجدي بعينيه تقبلهم: «هذا يحدث أحياناً، لا بد من أنكم شاهدتم ذلك في الأفلام»، عندما لا يكون هناك أحد غيرهما، يرسل بنظراته الشاردة إلى البعيد ليقنع ذاته: «لم يكن فارق السن عقبة أبداً في طريق الحب». مسح أثر القبلة بحركة متوترة من يده، وعاد إلى جلسته المتخشبة بجوارها، يراقب السائق متمنياً أن تكون لحظة القبلة فاتته. التقت عيونهما مجدداً. كانت عينا السائق محايدتين تماماً. أحس بالارتياح وأراد أن يعتذر لها عن جموده، فأراح ذراعه على كتفها. أزاحت يده برفق، وهمست: «ستنام جيداً الليلة». وصله معنى التأنيب فسمع العبارة: «ستستريح مني»، أجاب: «سأفتقدك، لا تحزني هكذا». «لا تقلق». وجد في ردها غير المكترث إصراراً على التأنيب. لم يجد ما يقوله، ضغط كفها، وراح يطوي أصابعها ويحتضن كفها في راحة يده، يفرد الأصابع ويتحسسها واحدة فواحدة. تركت يدها تتقبل اعتذاره. وشرعت لمسات أصابعه تزيل طبقة الغضب، فطبقة الحزن، حتى وصلت إلى طبقة الرضا التي عرفها في انحلال وليونة أصابعها. تحركت رغبته، فصار يضغط مشتهياً. واصلت أصابعه عناق كفها ونظر في عينيها، فرأى كل الغبطة التي سهرا على إنجازها في الليلة الماضية. قالت تنفي السعادة التي تكاثفت في عينيها: «بصدق، ستستريح، أنت تعبت». «ما يتعبني تكرار الفراق، وليس وجودك»، أجابها بطلاقة وحرية من دون أن يضع في حسبانه رقابة السائق الذي تطلع إليه. رد على نظرته بتحدٍ لم يترك له سوى الاعتذار المبطن من خلال سؤال عن المسار الذي يفضلان أن يسلكه. «طريقك، وأنت من يقرر»، أجاب الكهل بجمود، وزحف نحو الفتاة ملغياً السنتيمترات التي تفصل بينهما. مررت ذراعها خلف رأسه وأمسكت بشحمة أذنه: «لا أريد أن أعود، لا أريد المطار، سأبقى معك». في الأفلام، ليس هناك سوى جواب واحد شافٍ على هذه الأمنية، جواب لا يوجه إليها، بل إلى السائق كي يلتف عائداً. ثم يطلب منه التوقف أمام الحديقة المجاورة للفندق، حيث قضيا نصف الساعة الأخير قبل الشروع في المغادرة. يترجلان. يجرجر عنها الحقيبة على الممشى الممهد في الحديقة، يعودان إلى المقعد ذاته ليمسحا عنه آثار الاستعجال، ثم يخرجان ليستأنفا حياتهما معاً. لكن الحياة ليست كالأفلام، لذلك لم يتهور الكهل بإعطاء أمر الالتفاف الى السائق. كررت رغبتها في البقاء. ولم يجد ما يقوله لها سوى تناول يدها والتربيت عليها بهشاشة العاجز.