في هذا الزمن الذي يعمّ فيه الإرهاب والإرهاب المضاد، الزمن الذي يتحول القتل فيه الى مجرد فعل عشوائي مجاني، لا تبرِّره أي أهداف سياسية أو خطط إستراتيجية، من الواضح أن معظم العمليات التي تسمى، في العادة، عملياتٍ إرهابيةً، يطاول الأبرياء والضعفاء والذين لا يمكن أحداً حمايتهم، أكثرَ بكثير مما يطاول أولئك الذين يمكن أن يكونوا هم المقصودين به أصلاً. ومن المؤكد أن مثل هذه العمليات يشكِّل اليوم الهاجسَ الأساس، ليس للسياسيين والمخطِّطين فقط، بل كذلك للناس العاديين، الأبرياء في شكل عام. وللتيقن من هذا، قد يجدر بنا أن ننظر الى ما يحدث في أماكن كثيرة من حولنا، لنكتشف مرعوبين فصول القتل المجاني، تلك الفصول التي تذكِّر الى حد بعيد بسوابق تاريخية، بعضها كان للفن والأدب منه موقف واضح - أحياناً - وملتبس في أحيان أخرى. وفي هذا المجال، إذا كان لنا أن نتذكر عملاً فنياً معيناً دنا من مثل هذا الموضوع، فلا شك في أن هذا العمل يمكن أن يكون مسرحية «العادلون» للكاتب والمفكر الفرنسي ألبير كامو. صحيح أن كامو لم يشتهر أصلاً ككاتب مسرحي، بل كروائي، وأعماله الروائية لا تزال حاضرة بيننا تُقرأ، وأحياناً كنصوص فكرية فلسفية («الطاعون» أو «الغريب»...)، لكنه كتب مع ذلك مسرحيات عدة، كما انه حوّل نصوصاً أدبية، له ولغيره، الى مسرحيات، بحيث إن ثمة الآن ما لا يقل عن تسعة أعمال مسرحية تُقدَّم وتحمل توقيع ألبير كامو. وإذا كان من الصعب علينا أن نعتبر «العادلون» - التي يترجم عنوانها الى العربية أحياناً ب «البررة» -، عملاً فنياً كبيراً، فإن في وسعنا في الوقت نفسه أن نعتبرها عملاً فكرياً مهماً يثير سجالات حادة، من اللافت أنها سجالات زماننا الذي نعيشه الآن، كما سيتبين لنا. شخصيات «العادلون» الأساسية ثلاث، هم من إرهابيي منظمة تطلق على نفسها اسم «الاشتراكي الثوري». وهم: إيفان كالياليف وستيبان فيدوروف ودورا دولبوف. والأشخاص الثلاثة روس، ومنظمتهم هي واحدة من تلك المنظمات الثورية الإرهابية الروسية التي تكاثرت عند المنعطف الزمني بين القرنين التاسع عشر والعشرين. ونعرف، تاريخياً، أن تلك المنظمات كانت لا تجد أمامها إلا الإرهاب وسيلة لمحاولتها الاستيلاء على الحكم والوصول الى ما تعتبره في أدبياتها «عدالة اجتماعية». وهي، في ذلك، وجدت نفسها بين مطرقة البوليس السياسي وسندان الأحزاب «الأكثر عقلانية»، فلم تجد أمامها إلا أن تمعن في الإرهاب، لعل وعسى. وحين تبدأ هذه المسرحية، التي كتبها كامو في خمسة فصول، نجدنا أمام الإرهابيين الثلاثة المذكورين وقد كُلِّفوا بعملية إرهابية فحواها اغتيال الدوق الأكبر سيرج، في عام ما عند بداية القرن العشرين، في روسيا. وفي حوار أولي، يروح كل واحد من الثلاثة مفسِّراً لنا سبب إقدامه على المشاركة في العملية، في خليط من التذرع بالأسباب السياسية والشخصية. فها هو إيفان يقول إنه انضم الى الثورة «لأنني أحب الحياة»، أما ستيبان، فيقول: «إنني لا أحب الحياة، بل أحب العدالة، التي هي في نظري أسمى من الحياة بكثير»... هذا فيما تقول دورا بكل بساطة: «إننا في نهاية الأمر قوم عادلون، ومن هنا، فإننا محكومون بأن نكون أكبر من ذواتنا...». وهكذا، انطلاقاً من هذه القناعات المتأرجحة بين الذات والموضوع، يَقبل الثلاثة إسداء المهمة، ويتوجهون الى حيث سيمر موكب الدوق الكبير لكي يرموه بالقنابل التي ستقتله وتقتل من معه. يكون إيفان هو المكلف إلقاء القنابل، أما الآخران فللحماية. وفي اللحظة المعينة حين يمر الموكب، يتراجع إيفان عن رمي القنبلة... لماذا؟ لأنه وجد أن الدوق الكبير يصطحب معه في عربته أطفالاً هم أولاد أخيه. بالنسبة الى إيفان كالياليف، ليس ثمة قضية في هذا الكون يمكنها أن تبرر قتل الأطفال. وهو، إن كان مستعداً لقتل الدوق ورفاقه، فإنه ليس مستعداً لرمي قنبلته على الأطفال. وهكذا يقرر إيفان تأجيل الإقدام على العملية، أمام احتجاجات ستيبان، في حوار شائك بين الاثنين محوره فكرة الإرهاب وضرورات العدالة والتبريرات الثورية... وما إلى ذلك، وهو الحوار الأقوى في هذه المسرحية. المهم في الأمر أن إيفان يعاود الكرّة بعد يومين ويتمكن من قتل الدوق الكبير، لكنه سرعان ما يجد نفسه وقد أطبق عليه رجال السلطة واعتقلوه ليوضع في السجن. وهناك وهو في سجنه تزوره الدوقة أرملة الدوق الكبير، التي يبدو أنها علمت بما كان فعله خلال المحاولة الأولى، وترى الآن أن في إمكانها أن تنقذ حياته... لكنه يرفض عرضها، لأنه إنما يريد في حقيقة أمره أن يدفع حياته ثمناً لمعتقداته - ذلك هو فعل إيمانه ومبرر عمله -، يقول للدوقة: «إذا لم أمت جراء ما فعلت، فإنني أتحول من ثائر الى قاتل»، ويشرح إيفان للدوقة نظريته هذه. في اليوم التالي ينشر البوليس السري خبر زيارة الدوقة الى الإرهابي في سجنه، وذلك في محاولة من هذا البوليس للإيحاء بأن إيفان كالياليف أعلن توبته. وهنا تساور رفاقَه شتى أنواع الشكوك، وينتظرون ما ستأتي به الأيام المقبلة من أخبار، فإذا لم يعدم إيفان سيكون معنى ذلك أن تقارير البوليس السري صحيحة، وأنه ندم واستغفر، وربما وشى برفاقه أيضاً. أما إذا أُعدم، فإن معنى هذا انه صمد في موقفه و «مات كثوري شريف». كما يقول واحد من رفاقه. وبسرعة يأتي الخبر اليقين: لقد أُعدم إيفان، ويمكن الآن رفاقه أن يتنفسوا الصعداء، ليس فقط لأن موته يعني أمنهم الشخصي، بل أيضاً لأن معناه انه كان واثقاً من كل ما فعل، من دون تردد أو ندم... أنه لم يَهُنْ ولم يَخُنْ... وهذا الأمر مهم في مثل هذا النمط من العمل الثوري. يجب أن يموت الثائر لكي يثبت جدارته... بالحياة. ويا للمفارقة! وإزاء هذا النبأ، تطلب دورا أن تُكَلَّف هي إلقاء القنبلة التالية في عملية اغتيال جديدة، لأن إيفان، الذي كان صديقها «قدّم المثل الصالح»، وهي الآن تواقة لأن تصل الى حيث وصل: تواقة الى أن تَقتل وتُعتقل وتموت، لتلتقي بإيفان «في بحر العدالة والبراءة والموت». والحال أن موقف دورا هذا، هو الذي يطرح الإشكالية الأساسية في هذه المسرحية: هل يمكن الثوري أن يقتل ويبقى عادلاً باراً في الوقت نفسه؟ هل يمكن المرء أن يحب الحياة ويختار الموت في الوقت نفسه؟ وتأتي الأجوبة فقرات فقرات، من خلال الحوارات، أي من خلال التباسات كامو: لكي يكون المرء عادلاً وبارّاً يجب أن يحب الحياة ويقتل من دون كراهية، يجب عليه ألا يقتل من أجل فكرة مجردة... بل إن الشيء الوحيد الذي يبرر القتل هو أن يكون قتلاً غايته وضع نهاية لكل قتل... هذه هي إذاً، المحاكمة التي تَرِدُ في هذه المسرحية، التي - وكما أشرنا - كانت قيمتها الفكرية والسجالية دائماً أكبرَ من قيمتها الفنية، خصوصاً أن كامو كتبها بُعَيْدَ الحرب العالمية الثانية، لتقدَّم للمرة الأولى عام 1949، طارحة إشكاليات كانت أصلاً في صميم ممارسات المقاومة الفرنسية خلال تلك الحرب. ومن هنا اعتبرت المسرحية مساهمة منه في السجالات السياسية والأخلاقية، لا في الحياة المسرحية. وألبير كامو (1913 - 1960) المولود في الجزائر، والذي قضى شاباً في حادث سيارة، هو صاحب بعض المؤلفات الفرنسية الأكثر شهرة عند أواسط القرن العشرين. وهو خاض الكتابة الروائية والفلسفية والمسرحية والقصصية، وحوّل الكثير من أعماله الى أفلام (أشهرها «الغريب» من إخراج لوكينو فسكونتي)، وتُرجمت أعماله الى لغات كثيرة، ونال جائزة نوبل للآداب، كما أنه أثار سجالات حادة، ولا سيما من خلال مواقفه الملتبسة من القضية والثورة الجزائريتين. [email protected]