عشيّة الذكرى المئوية للثورة البلشفية، أو ثورة أكتوبر العظمى كما كانت السلطات تصفها، دخلت روسيا فجأة في جدال، حول ضرورة دفن جثمان قائد الثورة فلاديمير لينين، الذي يقبع محنطاً في الضريح في وسط الساحة الحمراء في موسكو. تعتبر هذه المسألة من أكثر المسائل الشائكة في تاريخ روسيا الحديث. وقبل اليوم، مرّت روسيا على الأقل بمحطتين دار الحديث فيهما عن ضرورة دفن جثمان قائد البروليتاريا، أهمها في عام 1992 مباشرة بعد سقوط الحكم الشيوعي، حين قامت السلطات بدفن الكثير من الساحات والأنصاب والأسماء وضحايا الحقبة الشيوعية لكنها تقاعست عن دفن زعيم الشيوعيين وتركته معروضاً في الساحة الحمراء، ربما خوفاً من الغضب الشعبي بوجه سلطات كانت لا تزال جديدة وتواجه مشاكل اقتصادية وأمنية كثيرة، فاعتبرت الخطوة مجازفة لا تبررها ضرورة. المرة الثانية التي نوقش فيها الموضوع كانت مع أفول حقبة يلتسن وصعود بوتين، وكان الرجل الأول حينذاك في إدارة الرئاسة الرجل القوي ألكسندر فولوشين هو الذي اقترح على الرئيس الجديد فلاديمير بوتين حينذاك، ضرورة دفن الجثمان، لأنّه لا توجد دولة طبيعية ديموقراطية تترك أمواتاً في وسط عاصمتها وفي أهم ساحتها. والواقع أن بوتين كان يملك فرصة ممتازة ليقوم بذلك، وهو ليس بالشخص الرافض الفكرةَ بقدر رفضه التوقيت، لكن هذا التوقيت لم يأت أبداً حتّى الآن. ما كان يمكن أن يساعد في شكل إضافي على القيام بالخطوة هو أن بوتين كان قد بدأ يحصد الشعبية الكافية بسبب إعادته العديد من رموز الحقبة السابقة، مثل النشيد الوطني، والعروض العسكرية وغيرها، التي حنّ إليها الشعب بعد انتكاسات التسعينات. وكان ممكناً في خضمّ هذه الموجة القيام بالخطوة الجريئة برفع الجثمان ودفنه، كما فعلت السلطات السوفياتية قبلها بجثمان ستالين في عزّ حملة لتطهير الحزب الشيوعي من تبعات أفعاله وجرائمه. اليوم، وللمفارقة، يعود الموضوع إلى النقاش العلني، ليس بسبب ذكرى مئوية الثورة إنما لاقتراب الانتخابات الرئاسية، وإعلان كسينيا شوبتشاك، الصحافية المعارضة ومقدمة البرامج الترفيهية سابقاً، والتي أعلنت ترشحها لموقع الرئاسة في الانتخابات المنتظرة في آذار (مارس)، عزمها على دفن الجثمان في حال انتخابها. لا يسعنا الحديث هنا عن الاتهامات الواسعة التي أعقبت ترشيح سوبتشاك، بأنها مدسوسة من الكرملين للإضرار بحملة المعارض أليكسي نافالني ذي الشعبية الكبرى في روسيا، خصوصاً أن والدها، رئيس البلدية الديموقراطي السابق لسان بطرسبرغ، كان من أكثر المقربين من الرئيس الروسي الحالي. ولكن، ما يلفت النظر هو كثرة التصريحات التي أعقبت إعلان سوبتشاك هذا، وهذه التصريحات جاءت من أناس بعيدين كل البعد من دائرة المعارضة أو الليبراليين، ما يترك انطباعاً بأن دوراً أوكل إليها بإطلاق حملة لدفن الجثمان ما كانت السلطات الرسمية لترضى بأن تكون المبادِرة بها. وللمفارقة، أول تصريح داعم الفكرةَ، جاء من الرئيس الشيشاني القوي رمضان قديروف الذي كتب عبر مواقع التواصل تعليقاً داعماً لاقتراح دفن الجثمان. وللإشارة، فإن قديروف ربما هو الحاكم الوحيد لإقليم من أقاليم روسيا الاتحادية الذي يسمح لنفسه بإطلاق تعليقات مباشرة من دون انتظار أي إشارات من موسكو، لا بل يصح القول إنّه أحياناً يرسل إشارات لموسكو يدفعها فيها إلى القيام بالمطلوب، كما حصل مثلاً في قضية مسلمي الروهيغيا، حين انتقد تقاعس موسكو عن الإدانة فما كان من الكرملين إلا أن غيّر لهجته. ولم تتوقف الأصوات الداعمة هذا الاقتراح بل صدحت من الكثير من المقربين من دوائر القرار، وأهمهم رئيسة مجلس الاتحادي الروسي فالنتينا ماتفيينكو، والقومي فلاديمير جيرينوفسكي، والنائب المحافظة ناتاليا بوكلونسكايا، أشهر نواب الدوما الروسي حالياً، وتحتل في يومنا هذا عناوين الأخبار بسبب حملتها الشرسة ضد فيلم «ماتيلدا» الذي يحكي عن علاقة القيصر الروسي نقولا الثاني براقصة باليه، وهو أمر لا يقبله بعض أفراد المجتمع المحافظ لأسباب ليس آخرها انتماء القيصر وعائلته إلى مصاف القديسين لدى الكنيسة الروسية. في كل الأحوال، لن تنتهي مصائب الشعوب أو تتحسن أحوالهم بمجرد دفن شخصية كان لها تأثير هائل في مسار روسيا وعشرات الدول الأخرى، لأن الدفن الحقيقي يبدأ من الوعي الاجتماعي المشترك بما قام به النظام التوتاليتاري تجاه شعبه بالدرجة الأولى والمصائب التي تعرضت لها الشعوب الأخرى. لذا، لا يزال أمام المجتمع الروسي طريق طويل للخروج من الماضي، وهو أمر غير ممكن من دون سلطة تقوم بقيادة التغيير لأنه لا مصلحة للأجيال القادمة أن تنظر إلى الماضي بل أن تعمل جاهدة لاحتلال المكانة المناسبة في المستقبل. * كاتب لبناني مقيم في موسكو.