عندما انطلق مهرجان «ارتجال» للموسيقى التجريبية في بيروت قبل 11 سنة، استغرب الجمهور اللبناني هذا النوع من الموسيقى الذي وجد فيه نمطاً غريباً يزعج أذنه، كونه غير نغمي ولايتبع مقامات محدّدة. وحينه توقّع المتابعون فشل المهرجان وعدم إمكانية استمراره. لكن سنة بعد سنة، صار الجمهور يكبر وتتّسع لديه رقعة الحشرية المعرفية ليبحث في تفاصيل هذه الموسيقى «الغريبة». وبعدما كان مصطلح «موسيقى تجريبية» غير مفهوم لدى غالبية الجمهور المهتمّ بالموسيقى بعامة، صار مرغوباً الغوص في تاريخه ومتابعة آخر تطوّراته في العالم. والفضل في ذلك يعود الى الفنانين اللبنانيين الثلاثة رائد ياسين ومازن كرباج وشريف صحناوي، الذين أسسوا هذا المهرجان بتصميم وإصرار. وقد عرفت الموسيقى التجريبية في أوروبا خلال خمسينات القرن الماضي، وكانت تشمل الموسيقى المعاصرة، والإلكترونية والملموسة، و«الإلكترو- أكوستيك». وبدأت مفاهيمها تتبلور في الستينيّات، مع الموسيقيين الأميركيين الأكثر راديكالية وأبرزهم جون كايج. تشمل الموسيقى التجريبية تيّار المينيمالية التكرارية (فيليب غلاس)، والأنماط الموسيقية ما بعد الحداثية، وأنماطاً مفتوحة على مسالك متعدّدة، منها الجاز الحر والتجريبي، والروك التطوري الحديث والتجريبي، انضمّت تباعاً إلى هذا التيار الذي تغذّى من الفلسفة والتيارات الفنية الاحتجاجية. ويشرح ياسين وهو فنان معاصر يشتغل في مجال الموسيقى التجريبية والتجهيز الفني وأعمال الفيديو التي تحاكي الثقافة الشعبية والذاكرة الجماعية في العالم العربي، «أسسنا المهرجان بعدما عملنا مطوّلاً في الموسيقى التجريبية وسافرنا الى بلدان أوروبية وآسيوية وأميركية للمشاركة في مهرجانات عالمية. وحينه قرّرنا تعريف الجمهور العربي بهذه الموسيقى بعدما وجدنا أن ليس لها صدى في مجتمعنا». ويضيف ياسين: «نحن مؤمنون أن هذه الموسيقى يجب أن تلقى مكانها في العالم العربي، خصوصاً أنها تجعل الإنسان يفكّر وينتقد... وليست موسيقى مخدّرة». وحول استمرار المهرجان الذي يفتتح مساء اليوم دورته ال11، يقول ياسين: «استفدنا من التجارب السابقة وقرّرنا أن ننوّع في البرنامج كي لا يملّ المستمع. ومنذ 2009 بدأنا نستضيف فرقاً وموسيقيين يقدمون الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة، والروك، والجاز الحرّ، والإلكترونيكا، والبوست بونت، وغيرها من الأنماط الموسيقية التي تدمج ما بين الشرقي والروك أو بين التجريبي والكلاسيكي. وبتنا ندعو فرقاً عالمية تقدم الموسيقى التجريبية مرافقة بأعمال فيديو، أو أعمال إضاءة وألعاب بصرية كما نفعل في هذه الدورة حيث نستضيف الخميس 7 نيسان (أبريل) المقبل فرقة «نوها» من النروج التي تقدم موسيقى إلكترونية مع «باور روك» ذات الصخب العالي يصاحبها استعراض إضاءة باهر. وهي تجربة فريدة من نوعها كون الاستعراض يعكس ما يمكن الجسد والنفس والروح أن تعتمله من أحاسيس وثورة وتعبيرات». ويرفض الفنانون الثلاثة تمويله من قبل جهات معيّنة، متحمّلين أعباء المصاريف والخسارة المادية سنوياً، «غالبية الجهات المموّلة تفرض علينا أجندة لا يمكن أن نقبل بها، فهذا المهرجان يقدم موسيقى حرّة وأفكاراً حرّة لا قيود لها». كما يرفضون أن يكون مجانياً «لأن الشخص إذا كان مهتماً يجب أن يأتي ويدفع ثمن ما يُقدّم له من جهد وتعب»، يقول ياسين. ويضيف: «على كل حال أسعار البطاقات ليست باهظة فثمنها عشرة دولارات لليلة الواحدة التي تتضمن 3 فرق موسيقية عالمية ومتنوعة الأنماط. ويشير الى أن «المهرجان مغامرة، لكنها جميلة ومؤثرة في الجمهور الذي نخاطبه خصوصاً أن الموسيقى التجريبية المرتجلة لا تزال عصيّة على الفهم حتى في أوروبا والولايات المتحدة». وتتميز الدورة الحادية عشرة التي تنطلق مساء اليوم من على خشبة مسرح بيروت في عين المريسة، بتعددية الأنماط الموسيقية وغنى البرنامج الذي يستضيف 11 فرقة وحوالى 30 فناناً من بريطانيا والنروج ومصر وألمانيا وفرنسا ولبنان وكندا. ومن أبرز هذه العروض «القدس في البال» الذي يقدّمه رضوان مومنة ومالينا سلام في مركز بيروت للفن المعاصر الخميس المقبل. وهو عرض أدائي تركيبي، سمعي بصري، يرتكز على تيمات موسيقية لمومنة الذي خاض تجارب في الموسيقى العربية والشرق أوسطية، والروك psychédélique. كما هناك موعد في اليوم نفسه على خشبة مسرح بيروت مع الممثلة المصرية أميرة غزالة (مقيمة في لندن) والبريطاني سيث أياز (electronics) اللذين يقدمان قصائد صوتية بعنوان «مخارج»، وهو عرض يغوص في أبجدية اللغة العربية ليظهر كم هي لغة صوتية ومخارج حروفها أشبه لنغمات موسيقية فطرية. ويُختتم المهرجان بسهرة فريدة تجمع موسيقيين لبنانيين وأجانب بعنوان «ENSEMBLE 08.04»، أبرزهم مازن كرباج (ترومبيت)، ورائد ياسين (كونترباص)، وفادي طبّال (غيتار كهربائي)، وشريف صحناوي (درامز)، وبايد كونكا (كلارينيت/ سويسرا)، وستيفان ريف (سوبرانو ساكس/ فرنسا)، وكزافييه شارل.