بنفحة من روحه العلميّة والأدبيّة والمقاصدية، نشط المهندس محمد راجي البساط، (رئيس جمعية المقاصد سابقاً)، على تقديم جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية – صيدا في الذكرى السنوية المئة والثلاثين لتأسيس الجمعية (1879- 2009) رافعاً شعار: 130 عاماً ويستمر العطاء. وكتب في تصديره للسفر الأول الوثيقة: «مقاصد صيدا بأقلام متخرجيها (1943- 1956)» عن «فكرة إصدار كتاب بقلم المتخرجين الأوائل، يؤرخون في كتاباتهم، سيرهم المقاصدية، ومراحل التعلم فيها. إضافة إلى سيرهم الذاتية، والمراكز المتميزة التي تبوؤوها بعد التخرج». وهو يضيف في مكان آخر، أن هذا الكتاب توثيق لحقبة مميزة ومهمة في تاريخ مقاصد صيدا يمكن لأي مؤرخ الإفادة للتأريخ لصيدا ومؤسستها العريقة هذه. ثم صدر السفر الثاني سنة 2013 بعد أربعة أعوام على صدور الكتاب الأوّل، وحوى كتابات ثلة من المتخرجين المقاصديين بين (1940 و1970) وصدّره ناشره المهندس محمد راجي البساط نفسه: «مئة وأربعة وثلاثون عاماً مضت على إنشاء الرواد هذه المؤسسة العريقة. هؤلاء الذين بذلوا الغالي من الجهود والثمين من الوقت لتشييد ركائزها ووضع الخطط والتصورات لدورها ومستقبلها». شاكراً لهم توثيق الوجه الأكثر حيوية من تاريخ المقاصد التربوي والدور الريادي الذي اضطلعت به منذ نشأتها (عام 1897م). هذه النشأة تحدث عنها بهاء الدين البساط (2/13) بقوله: «أسست جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت في شعبان 1295ه/ 31 تموز 1878م في منزل الشيخ عبدالقادر القباني وبرئاسته. ورد ذلك في مصادر عدة. منها ما ذكر في كتاب الشيخ عبدالقادر القباني، وكتابات فيليب دي طرازي». وأضاف: «ويروي السيد أبو علي سلام أن جمعية المقاصد في بيروت هي التي حضت الصيداويين على إنشاء فرع لها في مدينتهم. وأن وراء المؤسسين في المدينتين فكرة عربية. إذ إن وطأة الحكم التركي، كانت اشتدت على العرب، وأخذ هؤلاء يشعرون بوجوب رفع الكابوس عنهم. وهو الكابوس الذي كان يحتقرهم ويظلمهم ويثير البغضاء بين طوائفهم» (2/12 – 13). حقيقة، قلما نجد كتاباً توثيقياً عن صيدا بأقلام متعددة وبثقافات وتواريخ لتاريخ المدينة أكثر تعددياً، مثل هذا الكتاب الذي عمل على هندسته محمد راجي البساط، رئيساً للجمعية وناشراً للكتاب الذي يؤرخ في شكل أو في آخر الجهود الأثرية والأثيرة في صيدا البلد وفي صيدا المقاصد. والكتاب هو عبارة عن مجلدين نفيسين يقع كل منهما في (425 ص) أو ينوف عن ذلك بقليل. وبلغ عدد كتّاب المجلد الأوّل (36 مشاركاً ومشاركة) في تحرير مادته. بينما بلغ عدد كتّاب المجلد الثاني والذي نشر بعد أربعة أعوام كما ذكرنا سابقاً (23 مشاركاً ومشاركة). وربما حوى هذا الكتاب المتأخر ما ند عنه الكتاب الأوّل. غير أننا نرى في كلا المجلدين/ السفرين، تاريخ صيدا القديمة والحديثة في وجوه هؤلاء الأعلام، الذين حققت لهم مقاصد صيدا وحققوا لها، ما هو أهم بكثير من المناصب التي تبوؤوها: إنه العلم والأخلاق والريادة وروح المبادرة، فجعلت منهم كما جعلوا منها الرقم الأصعب في الشهادة، على تاريخ لبنان الحديث. جعلتني هذه الوجوه المقاصدية على غلاف المجلد الأوّل، أن أحيي حقاً من أعرفهم عن كثب، أو أعرف عنهم مقادير معينة من جهودهم الأثرية والأثيرة في تاريخ صيدا المدينة والوطن. ومن هؤلاء الدكتور عدنان محمد النوام وسعيد حسيب الأسعد وسميح الصلح والدكتور محمد المجذوب واللواء الركن ياسين سويد وحكمت الصباغ ومصطفى الزعتري ومحمد راجي البساط واللواء محمد قبرصلي وهشام صبحي البساط. ولهؤلاء عندي معرفة علمية واحترام مكتوم، ولصيدا عندهم وللبنان أيادٍ وجهود وتاريخ مشهود لتاريخ لبنان. كذلك جعلتني هذه الوجوه المقاصدية على غلاف المجلد الثاني، أن أنحني أمام جهودهم الأثرية والأثيرة أيضاً في تاريخ صيدا والمقاصد، وأن أرفع لهم القبعة تحية واحتراماً وأن أنحني أمامهم، لما بذلوه على صعيد الوفاء والعلم والعطاء، لا لصيدا والمقاصد وحسب، بل للوطن والعروبة. وأن أتوقف أمام بعض الأسماء التي حفرت نفسها بنفسها في ذاكرة اللبنانيين، ومن هؤلاء: دولة الرئيس فؤاد السنيورة واللواء عصام أبو جمرة، والدكتور أحمد بيضون، والباحث الإعلامي نهاد حشيشو ومحي الدين القطب وعبدالرحمن الأنصاري والأستاذة سلوى السنيورة وعبدالرحمن النقيب وزهية حجازي ورجاء نعمة وعمر البرازي وماجدة فاضل. وعن دور المقاصد في تاريخ صيدا ولبنان الحديث كتب المؤرخ اللواء الركن ياسين سويد: «كنا نخرج نحن طلاب المقاصد، في تظاهرات من أجل فلسطين وقضايا العرب الأخرى وجلاء القوات الأجنبية من لبنان وسورية والأردن والمطالبة بلواء الاسكندرون. وتسير التظاهرة إلى بوابة الشاكرية، ثم إلى السراي الحكومية». وفي مكان آخر يقول: «وزع علينا رئيس المقاصد منشوراتها ومنها كتاب «مقاصدي أنا، رفيق الحريري». وهو يتحدث عن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي كان رئيساً فخرياً للمقاصد وأباً راعياً لها (2/327). أمّا الرئيس السنيورة فقد كتب تحت عنوان: «مقاصدي مدى الحياة (2/201): «الكتابة عن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية هي من جهة أولى، عودة بحد ذاتها إلى ربوع صيدا المدينة الأحب إلى قلبي، حيث الحياة الاجتماعيّة الهادئة المفعمة بقيم الأخلاق والمحبة والتسامح والصدق والإخاء وحب الوطن... ومن جهة ثانية، الكتابة عن المقاصد هي تذكر وتذكير ووفاء للمؤسسة التعليمية الأم التي ارتبطت طفولتي بها...». ولعل الحنين إلى كل ذلك يدفعني بين وقت وآخر... إلى التفكير بزيارة المدرسة، وهو ما قمت به حين زرت ثانوية المقاصد في صيدا بتاريخ 30/11/2011. وأهم ما تميزت به مقاصد صيدا، أنها حفظت العربيّة شعراً وأساطير كما يقول نهاد حشيشو. وحفظت معها تاريخ العرب والإسلام والمسيحية وأرض فلسطين وبلاد القداسة. ويصف كلية المقاصد بقبلة صيدا، البلدة العطرة العميقة التاريخ، نتعلم فيها التآلف الاجتماعي والتعايش الأخوي بين العائلات والطوائف في وسطها وفي محيطها. أمّا اللواء أبو جمرة، فيقول: «لصيدا ومقاصدها التأثير البالغ في نشأتي العلميّة وفكري السياسي خصوصاً مع انطلاق ثورة الرئيس عبد الناصر وتفاعلها في مجتمعها وتجاوب شبابها معها» (2/85). وتقول سلوى بعاصيري: «لطالما اصطبغت المدرسة بمناخات الانفتاح، فكانت فرص المشاركة في مناسبات جامعة على صعيد مدارس لبنان قاطبة». وكتب مكسيم رودنسون عن مقاصد صيدا، أن المدرسين كانوا ينتمون إلى طوائف مختلفة. وذكر منهم المدرس الأرمني من بيروت والأرثوذكسي من مرجعيون والسني من برجا، بالإضافة إلى موظفين فرنسيين مثل ريمون المستشار لجنوب لبنان ومدير بعثة التنقيب عن الآثار في صيدا دوناند Dunand . ويقول أيضاً: «كان طلابي ينتمون إلى طوائف ومناطق مختلفة، لكن غالبيتهم من الطائفة السنية وبينهم عدد من الشيعة وبعض المسيحيين. وهناك طالب أو طالبان من اليهود» (2/351). وتحت عنوان «ذكريات من أيام المقاصد» كتب مصطفى الزعتري عن علاقة الرئيس رفيق الحريري بالمقاصد فيقول إنه أعطى المقاصد أرضاً وقال له: «لن يأخذ مني أي إنسان في حياتي أي أرض أملكها سوى المقاصد» (1/181). ويقول المهندس وهيب أبو عياش من بعقلين الشوف، إنه «أثناء عطلة نهاية الأسبوع، كنا نشكل مجموعة من الزملاء للتنزه في شوارع صيدا القديمة والأثرية التي بنيت فوقها منازل السكان، أو نزور قلعتها البحرية والبرية في البوابة الفوقا». (1/231). وبرأي النائب السابق سعيد الأسعد من الزرارية في قضاء الزهراني، أن المقاصد كانت قبلة طلاب العرب من اليمن ومن السعودية ومن الصومال ومن سورية... بالإضافة إلى جميع المناطق اللبنانية. إن في القسم الداخلي، أو القسم الخارجي، ولم يكن لها أي طابع من التعصب وأغلب أساتذتها من المسيحيين (1/35)، فكانت كلية المقاصد بهذه الروح المنفتحة والرحبة تنشر أجواء الإقدام والمهنية والمقاومة والبطولة والنشأة التربوية العروبية الإسلامية.