دعا الرئيس الأميركي السابق، جورج دبليو بوش، في ولايته الأولى الى إرساء استقرار «الشرق الأوسط الكبير» على الديموقراطية. ولكنه أدرك، حال انتخابه الى ولاية ثانية، أن الانتخابات الحرة قد تؤاتي «حماس» الفلسطينية، فمالَ الى سياسة واقعية غلبت على سياسته في أثناء الولاية الأخيرة. وثبّت باراك أوباما الميل هذا من غير مواربة، وأرجعه الى جورج بوش الأب. وحرص، في 2009، ألا يظهر بمؤيد الحركة الاحتجاجية بإيران. ولكنه انتهج سياسة هجومية حين انفجرت الأزمة التونسية، وفاجأته على نحو ما فاجأت الآخرين: وعاد الى سياسة متدرجة مع الأزمة المصرية. وخطبته في القاهرة، في 2009، لم تخلف ربما أثراً في إيران. وقد تترد أصداؤها في الحوادث العربية الحاصلة والمتنقلة اليوم. ولعل المسألة الملحة في نظر الأميركيين هي «عزل» الدعوة الى الديموقراطية وحقوق الإنسان عن تأثير المحافظين الجدد الذين صبغوا الدعوة بصبغتهم منذ 2001. فرفض نهج «الويلسونية المسلحة» والمتعسكرة لا يعني، وينبغي ألا يعني الامتناع عن المبادرة أو التكتف من غير حراك. فما العمل في هذه الحال؟ وما هو الخطاب المناسب؟ هل تعمد السياسة الأميركية الى حمل الأنظمة المتسلطة على إجراء إصلاحات من غير إكراهها على ما لا تحتمل؟ أم ان الإجراء المناسب هو مساعدة المجتمع المدني وحركة الاحتجاج؟ والحق أن أوباما اختار التغيير الديموقراطي على رغم مقاومة شطر من معاونيه، وملابسة التردد والتعثر هذا الاختيار. ولا ريب في أن أوباما مقيد بالأحوال والأوضاع التي تركها وراءه سلفه. فهو مضطر الى الإبقاء على قوات أميركية بأفغانستان، وتحمّل مترتبات الأمر من ضحايا في صفوف المدنيين الأفغان وتنديد الأفغان بالمسؤولية الأميركية عن سقوط الضحايا. ويوحي بأعمال تخريب خفية بإيران، قد ينسّق بعضها مع الإسرائيليين الخ. ومن القرائن على هذا الجرثومة المعلوماتية والإلكترونية التي بثت في بعض أجهزة النووية الإيرانية، ومقتل مهندسين كانا يعملان في مرفق عسكري... وهذا خير من القصف واجتياح إيران، وهما أقبح حلين، على ما أرى. والحرب الإلكترونية لا تخلو من مساوئ. فالجراثيم تنتشر، ولا تقتصر أطوارها على «مسرح عمليات»، ولا يميز انتشارها العدو من الصديق ولا الأجهزة العسكرية من الأجهزة المدنية في أنحاء متفرقة من العالم. وهذه المفاعيل تشبه تلك التي تنجم عن أعمال إرهابية تتخطى حواجز المكان وقيوده. وقد تطعن إذا أفلت زمامها، في مقاصد الولاياتالمتحدة الأخلاقية والديموقراطية. ويلاحظ المراقبون والمحللون أن المساعي الديبلوماسية الأميركية المتعددة الأطراف والمحجمة عن الإملاء والفرض لم تثمر في أثناء العامين المنصرمين. وهذا صحيح. وصحيح كذلك أن الطرائق الأخرى لم تكن مجدية ولا ناجعة. ويلاحظ المعلق الأميركي روس دوذات أن مذاهب النظرية الدولية كلها، تلك التي تشير بالتدخل، وتلك التي تحض على احترام سيادة الدول، أخفقت إخفاقاً فاضحاً. فمن ناحية، يعامل بعض رؤوس الديكتاتوريات معاملة رفيقة، ولكن بلدانهم تصور، من ناحية أخرى، الإرهاب والإرهابيين. ويُمدح حسني مبارك أو يُعذر، وزعماء «القاعدة» يخرجون من السجون المصرية وعباءتها. وتُحمل مجتمعات على الديموقراطية فيستولي الإسلاميون على السلطة في العراق وفلسطين. وتشن حملة إنسانية في الصومال، فينتفض الأهالي على القوات الأجنبية، وتخرج هذه وهي تجرجر أذيال الخيبة. ويُحجم عن التدخل في رواندا، ويترك البلد نهباً لحرب إبادة مخجلة. وفي أفغانستان، يُبادر الى التدخل ثم يُخرَج من البلد فتدخل طالبان وتحل محل الخارجين، فيرجع الأميركيون ويقيمون من غير أن يحول هذا بين طالبان وبين توسيع دائرة نفوذهم وسيطرتهم. وعلى هذا، فمهما صنعنا تنقلب الأمور علينا. ومرد الحال الى أن نظرياتنا بسيطة وساذجة قياساً على عالم شديد التعقيد والتركيب. وعزاؤنا هو حصول حوادث كتلك التي حصلت وتحصل في تونس ومصر من غير تدخلنا، وبمنأى من أفكارنا وتوقعاتنا. وهذا ما يطالع قارئ وثائق الديبلوماسية الأميركية التي تولى ويكيليكس نشرها وإذاعتها: فأميركا، بمعزل من المذاهب والعقائد السياسية السائدة، بعيدة من السيطرة على العالم، والتأثير الغربي في مجرى الحوادث ضعيف، وقلما يتخطى الضعف هذا. فالتدخل لم يبلِّغنا، ولا بلغ العالم الجنة الموعودة. والسياسة المتعددة الطرف مجهدة ومورِّطة. ومن وجه آخر ومقابل، لا يعوَّل كثيراً على السياسة الواقعية في سبيل حمل الحوادث على السير في وجهة مأمولة أو مرجوة. وقد يذكر بعض المراقبين بزعم الفيلسوف الألماني هيغيل أن العالم الإسلامي يترجح بين حدين: حد الانغلاق والتشدد وحد الانقياد للدواعي المادية والدنيوية. وهذه الدواعي تتزيا اليوم بزي التجارة والأعمال. ويذهب هؤلاء المراقبون الى أن ما يحتاج إليه العالم الإسلامي هو مستوى وسيط يقوم على الاهتمام بالشأن العام نفسه، أي إرساء الديموقراطية. وكان الحسبان أن الناس أو جمهورهم أذعن للتسلط لقاء الاستقرار وبعض النمو الاقتصادي النسبي، على أن تتولى خطابة التنديد بإسرائيل وأميركا جمع هذه النزعات في فكرة أو عقيدة متماسكة. وموجة الاحتجاج التي تعم بلدان العالم العربي تمتحن هذا الرأي امتحاناً قاسياً. ففكرة الكرامة والعزة حاضرة في ساحات الاحتجاج كلها. وهي تتقدم على الأهواء المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل، والغالبة على الإسلام الجهادي والسياسي، وكان يفترض أنها هي المتصدرة والمسيطرة. والمتظاهرون يطالبون بحرية التعبير، وبانتخابات غير معلبة ومعروفة النتائج. ويريدون الاعتراف بهم محاوراً أو نداً سياسياً، وضمان أمنهم وسلامتهم. ويشغلهم شاغل كرامة أمتهم وسيادتها. والحادثة على هذا الوجه وفي ضوء هذا «البرنامج»، تحملنا على تغيير تحليلنا وفهمنا لهذه البلدان رأساً على عقب. فهذان التحليل والفهم، أجمعا على أن «الجمهور» العربي أسير الضغينة والمهانة المتخلفة عن الهزائم العسكرية والحنين الى المجد الغابر، على نحو ما تجلت في القومية العربية، في صيغتها العربية ثم في العصبية الإسلامية التي خلفتها مذ ذاك. وما تكشفت عنه الحركات الأخيرة، في تونس ومصر وليبيا وغيرها، هو رغبة قوية في المساواة والحرية، على خلاف الهوة الهائلة التي تفصل سواد الناس عن قمم الثراء والسلطة. وهذه الرغبة ترسي الحياة السياسية على أسس جديدة غير الأسس القديمة التي تنهض عليها. ويلاحظ أن أوروبا ليست المرجع ولا المعيار، شأن الولاياتالمتحدة. وليس المرجع نقيضهما. ففي تونسوالقاهرة تولت جاليات الشتات، في حال الأولى، ووسائل الاتصال الجديدة، في الحالين، تبادل الأخبار والمعلومات ومناقشتها. ولا تتردد بلدان ديموقراطية مثل الهند والبرازيل في التحفظ عما تراه بقية دعوى ومزاعم غربية متعالية حين نقترح معاقبة بورما أو السودان. وتدعونا هذه الحال الى صوغ استراتيجية متماسكة، فلا نقتصر على الاحتجاج أو على ترويج قيمنا ومعاييرنا، أو التلويح باستعمال القوة. وليس في مستطاعنا، فعلاً، استعمال قوتنا. فعلينا تناول الوقائع والحوادث والأزمات تناولاً كثير الوجوه والمداخل على نحو كثرة وجوه المحاورين والشركاء والتوقعات والمصالح... وعلينا البحث عن حلفاء، وصوغ مساومات وتسويات. وليست الأدوار، داخل بلداننا الغربية، واحدة. فعلى حكوماتنا المبادرة الى الديبلوماسية، وعلى مجتمعاتنا أن تبادر الى أدوار لا تضطلع بها الحكومات. * مدير ابحاث جامعية في العلاقات الدولية، عن «اسبري» الفرنسية، 3-4/3/2011، إعداد منال نحاس