أخيلة وألوان، سماوات مضاءة بالحياة، موتيفات ورموز، صور لوجوه صامتة معبرة، أحجار قلقة، طبيعة منتظرة حالمة... اجتمعت كلها معاً لتحتضن ثلاث حضارات لثلاث مدن متوسطية جمعها البحر المتوسط بعاداته وتقاليده، وذلك في احتفالية تستضيفها الإسكندرية تحت عنوان «القارة السائلة». تضمنت الاحتفالية ندوة ومعرضاً فنياً بمشاركة 13 فناناً و4 كُتَّاب من أشهر فناني ومثقفي البحر المتوسط، احتفاء بمدن الإسكندرية واسطنبول والبندقية، في محاولة لرصد الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي فيها، وتتبع أوجه التشابه بينها والتي نتجت عن تاريخ طويل من تبادل الأفكار والرؤى والثقافات... والتي تجسّدت في مجالات العمارة والفن والألوان والأصوات والروائح وخفة الدم. ويعد «القارة السائلة» معرضاً تفاعلياً يقدم رؤية معاصرة للمدن المتوسطية الثلاث. ويقدم الوجوه المتعددة للحياة اليومية في هذه المدن، ويطرح تساؤلاً عن التحديات التي تهدد التوازن الهشّ للقارة السائلة. ويعكس كل ما يحتويه المعرض التبادل الحضاري والثقافي وأحياناً الصراع بين الحضارات. فحيثما التقت الحضارات... تصادمت. واستطاعت اللوحات تقديم فسيفساء من عادات وتقاليد متنوعة، إضافة إلى الأفكار المعاصرة الديناميكية والتي أبرزت الغنى الحضاري والزخم الثقافي لكل من المدن المتوسطية. قدمت سلمى أحمد بدوي ست لوحات من القطع الكبير، واستخدمت ألوان الأكريلك والزيت وجرّدت عدداً من الأبنية والعمارات حيث تتشكل مشهدية البحر في كل اللوحات بزرقته العميقة وإيحاءاته اللامتناهية. اللافت أن اللون الأزرق وتدرجاته الهرمونية والتي استخدمتها الفنانة نسج مساراً بصرياً واضحاً اتسق مع منظومة الألوان الأخرى في نسق فني أعطى للمتلقي تكويناً فكرياً ومذهبياً حداثياً، ما أعطى العناصر الساكنة حياة ونبضاً قلما نلاحظها في الأعمال الأخرى. وتقول بدوي: «المساحة الحيَّة التي يلعب فيها اللون الأزرق تجعلنا نبحث عن قيمة اللون وثرائه التشكيلي وزخمه الحضاري. وحاولت من خلال التجريد أن أضفي على اللون الأزرق مشاعر وانفعالات وعلاقات إنسانية عفوية أحياناً ومتعمدة أحياناً، فأول ما يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع الإسكندرية هو البحر وخط الأفق. والبحر هو الأزرق بتحولاته وأبعاده وحجومه اللامتناهية، وهو ما ركزت عليه في لوحاتي». وتوضح منى قناوي انها شاركت في المعرض من خلال الإشراف على ورشة الفسيفساء، وكذلك عبر لوحات فسيفساء تحت مسمى «رؤية معاصرة في فسيفساء النيل»، معتبرة ان «الفسيفساء هي التي ربطت الإسكندرية وإسطنبول وفينسيا». وعن لوحاتها، تقول قناوي: «ألجأ إلى استخدام خامات طبيعية جداً مرتبطة بالأرض لما لها من أبعاد تراثية وتاريخية واجتماعية وأبحث عن روح المادة لكي أخرجها من الجمود. فالأحجار لها لغة تتكلم وتتحاور بها. وعندما نعمل في الخامات الطبيعية علينا احترامها، فهي لا تحتاج كثير من الجدل اللوني والافتعال، فيكفي ما تحمله داخلها وتبثه حولها من قيمة أكبر كثيراً مما نتوقع». ويقام المعرض، الذي افتتحه سفير المفوضية الأوروبية مارك فرانكون بالتعاون مع المفوضية الأوروبية في القاهرة ومركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط في مكتبة الإسكندرية. وعقب الافتتاح عقدت ندوة بمشاركة الكاتب نيكولاس وودسوورث إلى جانب الروائي والكاتب الاسكندراني إبراهيم عبدالمجيد، والمؤرخ مايكل هاج، والدكتور جريجوري ماجيريك بالنيابة عن المؤرخ فيليب مانسيل. وأدار الندوة مدير مركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط الدكتور محمد عوض. وأكد وودسوورث أن السمة الغالبة على المدن المتوسطية هي التغيير، مشيراً إلى أن «السيولة» التي أشار إليها في كتابه «القارة السائلة»، تعبر عن سهولة انتقال الثقافات بين المدن الثلاث عبر العصور، وتتجلى الآن في سيولة نقل الأفكار عن طريق الانترنت، وإحداث التغيير الذي شهده العالم من خلال الثورة التونسية و«ثورة 25 يناير» (كانون الثاني). وأوضح الكاتب أنه سافر بطبيعة عمله إلى عدد كبير من الدول، لكنه لم يلمس هذا الشعور الهائل بالتماثل والتشابه والهوية المشتركة إلا في المدن المتوسطية، وخصوصاً الإسكندرية والبندقية واسطنبول، ما دفعه إلى الانطلاق في رحلة استكشافية للتعرف على أسباب هذا التشابه الذي أنتج «القارة السائلة». يذكر أن المعرض مستوحى من مجموعة كتب «القارة السائلة. ثلاثية البحر المتوسط»، للكاتب نيكولاس وودسوورث، ويستمر حتى 7 نيسان (أبريل) المقبل، وكان نتاج ورشة عمل عقدت في كلية الفنون الجميلة في الإسكندرية، وجمعت طلبة من الإسكندرية والبندقية واسطنبول. ويشمل عدداً من الأعمال الفنية لفنانين ومخرجين سينمائيين، وكتاب عالميين.