في تزامن غير مقصود انطلقت اعمال تظاهرتين فنييتن هما الأكبر في منطقة الخليج العربي: بينالي الشارقة في دورته العاشرة ومعرض «ارت دبي» في نسخته الرابعة. وإذا ما كان البينالي، وهو لقاء دوري يجري كل سنتين، ينتقي في شكل مباشر ومسؤول الأعمال الفنية التي تعرض في قاعاته فإن «أرت دبي» ما هو الا تجمع لقاعات فنية قادمة من مختلف انحاء العالم، تكون كل قاعة من تلك القاعات مسؤولة عما تعرضه من تجارب فنية متبناة. غير أن حساً طليعياً (مفترضاً) يجمع بين التظاهرتين، بما يجعل منهما مرآتين لما تشهده الفنون البصرية من تحولات جذرية في عصرنا. ومع ذلك فإن أهمية مثل هذه اللقاءات الكبيرة التي يتطلب قيامها تمويلاً ضخماً لا يكمن فقط في ما تعرضه من محاولات فنية، يتسم معظمها بطابع تجريبي، بل وأيضاً في رعايتها لإسلوب غير مباشر في صوغ بيئة ثقافية جديدة تكون بمثابة حاضنة لمزاج الفنون الجديدة وذائقتها وطبيعة المفاهيم التي استحدثتها تلك الفنون. وكما يبدو فإن الشق الثاني من المهمة سيبقى مرجأ من خلال ضعف المشاركة العربية في اللقاءين. فبينالي الشارقة الذي كان قد قطع صلته بفني الرسم والنحت منذ سنوات، وطرد بذلك من جنته كل التجارب الفنية التي لا تزال مؤثرة في بنية التفكير العربي في الفن وطرق تذوقه وجمالياته حاول هذه المرة أن يستقبل على هامشه الضيق تجارب عدد من الفنانين التقليديين (بحسب تصنيف ادارته). اما «ارت دبي» فان قاعات العرض العربية المشاركة فيه تكاد تُعد على اصابع اليد الواحدة وسط عشرات القاعات القادمة من أوروبا وشرق آسيا. واقعياً فإن الفن العربي (حتى من خلال تجارب فنانيه المحسوبين على تيار ما بعد الحداثة) لم يتم النظر إليه في شكل جاد، بل تمت استضافته ليكون أشبه بالزخرف المحلي، الذي يمكن تفادي النظر إليه بيسر. ذلك لانه لم يستوف الشروط النقدية التي وضعها المشرفون على اللقاءين (جلهم من غير العرب) التي تهب التجارب مشروعية انتسابها إلى الفن. لقد عاد بنا هذا السلوك النرجسي (الذي لا يخلو من عنف) إلى التصنيف الغربي القديم بين ما هو فني وما هو غير فني. طبعاً من وجهة نظر غربية دائماً. فما من أحد من المشرفين على البرامج في إمكانه أن ينكر رؤيته الاستعلائية إلى الفنان العربي، كونه لا يزال متمسكاً بفني النحت والرسم المنقرضين (من وجهة نظرهم). ليس من المجازفة في شيء القول إن التظاهرتين تتماهيان مع روح الاستهلاك المستشرية في تلك المنطقة في اعظم صورها المتمثلة بعقدة الاستيراد. غير أن الحال هذه المرة تكاد تكون أشبه بالفضيحة. فاستيراد الفنون ليس كاستيراد المواد المنزلية، ذلك لأنه يشكل انتهاكاً صريحاً للغة روحية لم يكن العرب غافلين عنها يوماً ما، حتى في اسوأ مراحلهم الحضارية. ومثلما كانت القبائل الأفريقية تنتج فناً بدواعٍ سحرية ودينية كان للعرب فنونهم التي لا يُخفى سحرها على العين الخبيرة. ولقد كانت الخمسون سنة الماضية مسرحاً كبيراً لتجليات الحداثة في العالم العربي. ونحن هنا في غنى عن استعراض انجازات الفنان العربي في القرن العشرين على المستوى الجمالي. غير أن كل ذلك شيء وفكرة المشرفين على التظاهرات الفنية في دولة الامارات العربية شيء آخر. أسباب تلك القطيعة واضحة: هناك خبراء أجانب استقدموا مثلما يتم استقدام خبراء النفط والشركات العقارية ليكونوا حكاماً على الحالة الفنية، وليقرروا ما يمكن أن يكون صالحاً ليكون الفن على الأقل موجوداً باعتباره نوعاً من المباهاة. سيكون علينا دائماً الانتباه إلى ما يتخلل تلك المباهاة من حالات استثمار. وكما هو معروف فإن الخبير الأجنبي (أشك في أن مديري تلك المشاريع الفنية هم من خبراء الفن الاصيلين) لا يهمه في شيء المصير الذي ستنتهي إليه مشاريعه في منطقة، من المؤكد أن تاريخ الفن لن يلتفت إليها. الأمر لا يتعدى إذاً واقع الصفقات الموقتة. صرنا إذاً نستأجر خبراء فن مثلما تستأجر الشركات خبراء اقتصاديين. ما يؤكد كل ما أسلفت أن الندوات التي تقام على هامش تلك التظاهرات الفنية لا يحضرها إلا الأجانب. وغالباً ما تُزين تلك الجلسات (النقدية) بفتيات اجنبيات من أصول عربية، هن الأكثر استمتاعاً بالظرف الفلكلوري الذي تتميز به البلاد التي تستقبلهن بحفاوة. على هذا المستوى تجري الأمور كما لو أن شيئاً لم يقع من قبل. لقد مُحيت تجارب النقد الفني في العالم العربي تماماً. على المرء أن يجلس الآن منبهراً وهو يستمع إلى آراء عادية، ينصب معظمها على امور عامة هي أشبه بوجبات المطاعم على الطرق السريعة. هناك وصفات جاهزة يتم تداولها. غير أن هناك قوة خفية تفرض عملية الانصات إلى تلك الوصفات مثل واجب. اعتقد أن صمت الفنانين ونقاد الفن العرب، وهو صمت مريب حقاً، قد ساهم في اتساع المساحة التي ينتشر عليها نقاد ومؤرخو فن لا يكتبون. لا أحد منهم يقيم ما يحصل على مستوى مصيري، على رغم أن كل ما يحدث يتعلق بمصير الفن ومن خلاله مصير طريقة تفكيرنا في الفن باعتباره خلاصاً روحياً في منطقتنا. هناك دائماً حديث عن حوار الثقافات يتخلل الدعوة إلى مثل تلك التظاهرات الفنية ذات الطابع العالمي. وهو حديث مبهج غير أنه في حالتنا غالباً ما يكون حديثاً سياحياً عابراً وملفقاً، لا لشيء إلا لانه يستبعد الثقافة العربية من أن تكون حاضنته المريحة، في بلد يُفترض أنه عربي الانتماء والهوية. لذلك فمن حق الفنان العربي أن يفكر في حصته من ذلك الحوار. أليس غريباً أن تكون اللغة العربية غائبة عن مسرح النقاش الفني؟ يحضر العرب بأموالهم في الوقت الذي يُحظر فيه حضور لغتهم. اعتقد انها قسمة غير عادلة.