باتت التحولات العربية المتدحرجة وثورات الشعوب شأناً دولياً بامتياز توجب على الدول الكبرى والطواقم الحاكمة في الدول الغربية أن تتابع بدقة وتفعيل كل ما يجري في هذه الدول أو تلك والعمل على استلحاق التطورات الجارية في العالم العربي، الى درجة أن الموقف مما يجري في بعض هذه الدول أصبح مادة نقاش داخلي ومتواصل حول التدخل الدولي أو عدمه وحدوده وأهدافه وأبعاده، كما يحصل في الولاياتالمتحدة بين الجمهوريين والديموقراطيين وفي روسيا بين هذه الجهة أو تلك في قلب السلطة، وغيرهما من الدول. وبينما كان التحول الأقل كلفة الذي حصل في كل من تونس ومصر مدعاة تفكير في إعادة النظر في السياسات الخارجية في واشنطن ودول الغرب، بسبب المخاوف من تأثير هذا التغيير في إضعاف إسرائيل، فإن دومينو التحولات أخذ يفرض على المجتمع الدولي والدول الرائدة فيه التفكير في ما هو أبعد من القلق على إسرائيل، ومن قلق إسرائيل على نفسها جراء هذه التحولات. سرعان ما تراجعت الحجج الإسرائيلية السخيفة القائلة بأن هذه التحولات تدل الى أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المستقرة والتي تحتكر الديموقراطية لشعب الله المختار وحده، وكل ما يحيط بها معرّض للاضطراب، أو القول إن الولاياتالمتحدة والغرب يخطئان بالتخلي عن حلفائهما في سرعة لمجرد أن نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي من نوع الأنظمة التي تطمئن إليها الدولة العبرية في سعيها الى إنهاء القضية الفلسطينية. لقد تخطى تدويل التعاطي مع التحولات في الشرق الأوسط كل هذه القراءات السطحية الى ما هو أعمق من ذلك بكثير، وأثبت تدحرج الثورات أنه يشكل مدعاة للتغيير في العالم كله: في سياساته الخارجية والاقتصادية وفي نظرته الدونية الى منطقة الشرق الأوسط، لأن مخزون حركة الشعوب أطلق قدرات هائلة غير قابلة للضبط من البنى السياسية البالية القائمة التي قبل الغرب بالتعايش معها تحت عنوان حفظ الاستقرار لعقود من الزمن. وإذا كان القرار الدولي 1973 بفرض حظر جوي فوق ليبيا وحماية المدنيين الليبيين الذين يتعامل معمر القذافي عسكرياً معهم على أنهم جرذان، هو قمة تدويل التعاطي مع الثورات العربية، فإن لهذا التدويل مظاهر سبقته في التعامل مع الحراك العربي في دول أخرى. وليس صدفة أن يتهافت مسؤولون ورؤساء من سائر الدول الى مصر وتونس ويتابعوا عن كثب ما يجري في غيرهما. ومع أن القلق من التدخل الدولي في أزمات الأنظمة التي تشهد ثورات لتغييرها، مشروع وواجب، فإن انطلاق هذه الثورات من داخل كل دولة نتيجة تراكم القهر والظلم والفساد والقمع والديكتاتورية، يحمل في طياته عناصر ضبط ويضع حدوداً لهذا التدخل يصعب معه تصور تكرار السيناريو العراقي. ثمة عناصر موضوعية تحكم التدويل الذي نشهده تشكل ليبيا نموذجاً لاستخلاصها. فالغرب لم يعد قادراً على تكرار التجربة العراقية بسبب ما تكبده من خسائر وإخفاقات. وهو ما يفسر، بين عوامل أخرى، التردد الذي تحكّم بقرار الإدارة الأميركية في الإقدام على التورط العسكري، وهو تردد ناجم عن عقدة العراق. وإضافة الى اتكاء التدخل الدولي في ليبيا على طلب الجامعة العربية، وليس المعارضة الليبية فقط، فإن المنحى الذي أخذته الحملة العسكرية التي يشنها القذافي أخذت تنذر بتحميل المجتمع الدولي مسؤولية المجازر التي يرتكبها وقد يقوم بها لتفوق قواته العسكرية، وهو لم يُشفَ بعد من مسؤوليته عن مجازر الحروب الداخلية في رواندا والبوسنة والهرسك نهاية القرن الماضي. ومن الطبيعي أن تقلق الدول إذا نجح القذافي في منع الانتفاضة الشعبية من تسلم زمام السلطة من أن يحوّل ليبيا ملاذاً آمناً لتنظيم «القاعدة» والإرهاب، المتمرس في ممارسة أصنافه كافة ضد الدول التي أيدت تنحيه. ولا يمكن هذه الدول أن تتفرج على القذافي يعيد الإمساك بخيرات ثروة هائلة، مع عائلته، ليتحكم بجنونه، باستثمارات ببلايين الدولارات وظفتها في ليبيا على مدى السنوات القليلة الماضية ليبتزها ويستخدم أموالها في أفريقيا المرشحة لأن تشمل عدوى الانتفاضة بعض دولها، أو في العلاقة مع دول أخرى تخوض مواجهة مع المجتمع الدولي. ولا يستطيع المجتمع الدولي أن يدير ظهره لاحتمالات غير مأمونة بعد التغيير في ليبيا، كما سبق أن أخطأ في أفغانستان حين ساعد على تحريرها من الاحتلال السوفياتي عام 1989، فترك لحركة «طالبان» والتطرف أن يسيطرا عليها. خلافاً للعراق، ينظم تدخل المجتمع الدولي عبر أدوات متعددة الجنسية التنافس الدولي على استيعاب ثورة ليبيا، بدلاً من الأحادية الأميركية، ويقود الى تسويات بين الدول الكبرى (روسيا وأميركا) والمحورية (تركيا وألمانيا) في رعاية التحولات العربية.