عام 1968 اجتاحت القوات السوفياتية مدينة براغ، إثر تظاهرات شعبية معارضة، لم تلبث موسكو أن أسكتتها بقوة الحديد والنار. ونقلت وكالات الأنباء في حينه صورة شاب يدعى «بلاخ» قام بإحراق نفسه في الساحة العامة، كمظهر من مظاهر الاحتجاج على القمع المسلح لبلاده. وكان «بلاخ» يتوقع أن يحدث انتحاره انتفاضة شعبية عارمة تمهد لظهور مقاومة واسعة. ولكن توقعاته لم تتحقق إلا في عام 1989. أي عندما بدأت المنظومة الاشتراكية تتفكك في عهد غورباتشيف. والسبب أن الشعب في تشيكوسلوفاكيا لم يكن منظماً بشكل جماعي، للوقوف في وجه الغزاة. وعندما حدث الانفصال المخملي لتشيكوسلوفاكيا، برز اسم «بلاخ» في الذاكرة الجماعية كبطل من أبطال المقاومة. في شهر كانون الاول (ديسمبر) الماضي، أحرق الشاب التونسي محمد بوعزيزي، نفسه احتجاجاً على سوء المعاملة والتهميش الاجتماعي. وشكّلت تلك الحادثة موجة شعبية من السخط أدت الى إسقاط النظام وهرب الرئيس زين العابدين بن علي مع عائلته وحاشيته. ثم اتسعت موجة التغيير لتتحول الى «دومينو سياسي» انتقلت تفاعلاته المعدية الى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية. وبما أن الاعتصامات والتظاهرات تمت بفضل الشعوب المهمشة منذ نصف قرن تقريباً، فإن الأسئلة التي يطرحها المراقبون تتناول طبيعة هذه الانتفاضات وما إذا كانت ستتحول الى ثورات؟ ذلك أن الثورات - كما يعرّفها المؤرخون - هي التي تلغي كل مراحل الماضي، وتؤسس نظاماً جديداً منفصلاً عن ذلك الماضي. هذا ما فعله لينين وستالين وتروتسكي الذين دمروا امبراطورية قياصر روسيا، وبنوا فوق ركامها نظاماً شيوعياً ملحداً استمر أكثر من سبعين سنة. بل هذا ما فعله ماو تسي تونغ في الصين وكاسترو في كوبا والخميني في إيران. وقد شهد المشرق العربي في الخمسينات والستينات، موجة انقلابات عسكرية دشنها حسني الزعيم في سورية، ثم طورها جمال عبدالناصر بإلغاء الملكية في مصر، ومساعدة عبدالله السلال على إلغاء حكم سلالة الإمام حميد الدين في اليمن واستبداله بنظام جمهوري. كذلك ولدت خلال تلك المرحلة سلسلة انقلابات عسكرية كان أهمها انقلاب معمر القذافي في ليبيا الذي أنهى حكم محمد إدريس السنوسي وأقام مكانه «الجمهورية الشعبية الليبية». ويُستدل من تداعيات تلك المرحلة أن الشعوب العربية لم تكن مشاركة في صنع مستقبلها واختيار حكامها. واستغل القذافي هذا الشلل الداخلي لتحويل ليبيا الى مختبر خاص يجري فيه تجاربه المزاجية طوال 42 سنة. ولما فاجأته تظاهرات طرابلس وبنغازي، تصدى لها بالحديد والنار على أمل أن يلقى الدعم من أصدقائه في فرنسا وإيطاليا والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية. ولما تأكد له أن المجتمع الدولي يخطط لإسقاطه ومحاكمته، فتح أبواب ترساناته لأنصاره ومحازبيه والمستفيدين من ثروته، خصوصاً بعدما تبين له أن الدول الغربية التي ساهمت في إنشاء المجلس الانتقالي الوطني الموقت برئاسة مصطفى عبدالجليل، ماضية في تمزيق وحدة البلاد ولو أدى الأمر الى إنزال قوات أجنبية مقاتلة. والمعروف تاريخياً، أن ليبيا تشكلت من ثلاث مستعمرات سابقة لإيطاليا هي ولايات: طرابلس وبرقة وفزّان. وقد يكون من الصعب توحيد هذه الأجزاء الثلاثة إذا استمرت الحرب بعد وصول الضباط الفرنسيين والإيطاليين الذين سيشاركون في رسم خطط المعارضة. وتتوقع واشنطن أن تقوم الدول الأوروبية بإنشاء منطقة فاصلة تحت حمايتها بهدف مصر وقناة السويس. كل هذا خوفاً من ظهور جمهورية إسلامية في مصر معادية للغرب، ومرشحة لإلغاء اتفاق «كامب ديفيد». فور إعلان محاكمة حسني مبارك، أعربت طهران عن رغبتها في تعيين سفير في القاهرة بعد مرور ثلاثين سنة على خصومة بلغت حد المقاطعة السياسية والاقتصادية. ورحب وزير خارجية مصر الجديد نبيل العربي بهذه الخطوة، معتبراً إيران دولة صديقة لا يجوز تصنيفها في خانة الخصوم. وقال أيضاً، إنه على استعداد لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة من العلاقات. ومن المؤكد أن استقبال الشاه المخلوع في عهد أنور السادات، كان بمثابة الصدمة الأولى التي تلقتها طهران من القاهرة. لذلك ردت عليها بإطلاق اسم قاتل السادات على أهم شوارع العاصمة الإيرانية. إضافة الى هذه الخلفية، فإن سفر مجدي حسين، زعيم «حزب العمل المصري»، الى طهران هذا الأسبوع، ينبئ عن انفتاح في علاقات الأحزاب الإسلامية بين البلدين. كما ينبئ بالتالي، عن ظهور سياسة خارجية مصرية مختلفة في توجهاتها وعلاقاتها عن السياسة التي رسمها مبارك لعهده. وأكبر دليل على ذلك أن «الإخوان المسلمين» في مصر، قرروا الخروج من الظل والمشاركة في صنع مستقبل بلد اضطهدهم تقريباً في مختلف العهود. ولوحظ أن عضواً مركزياً في حركة «الإخوان المسلمين» كان يقف الى جانب رئيس الوزراء الجديد عصام شرف عندما كان يتحدث في «ميدان التحرير». ويبدو أن هذا الحضور كان نتيجة تفاهم مع قيادة الجيش. وفي هذا السياق يمكن تفسير زيارة وزير الخارجية نبيل العربي لقطاع غزة بهدف رفع الحظر عن «حماس» والاعتراف بها كمنظمة شرعية نالت أكبر نسبة من الناخبين الفلسطينيين. وفي مقابلة تلفزيونية، اعترف رئيس وزراء الأردن معروف البخيت، بأن لديه أدلة قاطعة على تشجيع الاضطرابات ضد الحكومة بالتنسيق مع «الإخوان المسلمين» في مصر وسورية. ولم ينكر رئيس «الإخوان» في عمان اتهام البخيت، وقال إن من حقه التشاور مع إخوانه في دمشق. وحول هذا الموضوع، اعترفت قيادة المعارضة الليبية في بنغازي أن الأحزاب التي تقاتل قوات القذافي تتشكل من قوى داخلية، إضافة الى مجاهدين حاربوا القوات الأميركية في العراق بالتعاون مع «القاعدة». كذلك سمحت لندن لبعض المنفيين الليبيين بالسفر الى بنغازي بغية الانضمام الى صفوف المحاربين، وإعطاء فرصة ل «الإخوان المسلمين» للاشتراك في أي نظام يقوم بعد القذافي. في ضوء هذه الاعتبارات، تتطلع الأممالمتحدة الى طبيعة الأنظمة التي ستولد من رحم هذه الانتفاضات، وما إذا كان المخاض سيطول أكثر من سنة قبل أن يطل المولود الجديد. ويرى المحللون العسكريون أن القوات البريطانية بقيادة مونتغومري، نازلت خلال الحرب العالمية الثانية قوات رومل، بهدف الاستيلاء على قناة السويس واحتلال مصر. وقد جرت المعارك فوق الأراضي الليبية التي تشهد حالياً معارك الكرّ والفرّ بين طرابلس وبنغازي. علماً أن نفط ليبيا لم يكن قد اكتشف بعد. ويؤكد نجل القذافي سيف الإسلام، أن والده ازداد عناداً بعدما شهد المصير الذي انتهى إليه صديقه حسني مبارك. وبين القادة الذين تأثروا واستاؤوا من المعاملة القاسية التي لقيها مبارك وأفراد عائلته، كان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح. ذلك أنه قرر الاستمرار الى حين تراجع المتظاهرين. واللافت أن تظاهرات اليمن انفجرت يوم تنحي مبارك عن الحكم (11 شباط/ فبراير). وركزت مطالبها على إسقاط الرئيس صالح بعد 33 سنة في السلطة. وقد تدخلت واشنطن بواسطة وزيرة الخارجية كلينتون ووزير الدفاع غيتس، من أجل إنقاذ اليمن وإعادة تصحيح مسيرة النظام. ومع أن الرئيس لمح الى احتمال ظفر «القاعدة» بالاستيلاء على الحكم إذا ما تخلت عنه الدول الكبرى، إلا أن هذا «البعبع» لم يعد مخيفاً كالسابق. والسبب أن علي عبدالله صالح حصل على مساعدات سخية من أجل محاربة الإرهاب، ولكنه استخدمها لشراء أسلحة سوفياتية استعملها لقمع خصومه. في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست»، قال وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، أن الدول الكبرى تتحسس خطواتها في ظلام الشرق الأوسط، لأن نهاية الاضطرابات لم تحسم بعد. أما فترة الاستقرار والهدوء فلا تظهر في مثل هذه الحالات إلا بعد استتباب الوضع للفريق المنتصر. وكان بهذا الكلام يشير الى انهيار المنظومة الاشتراكية عام 1989 والتي تعرضت لمنزلقات عدة قبل أن تتوقف تداعياتها بعد عشر سنوات. كما يشير أيضاً الى ثورة المكسيك التي اندلعت عام 1910 وظلت تشتعل حتى عام 1940. وكان من نتائجها سقوط مليون قتيل. ومن أبرز أبطالها كان إميليانو زاباتا وبانشو فيللا. أعرب بنيامين نتانياهو عن قلقه من ظهور سياسة خارجية مصرية معادية لبلاده، بسبب تقارب القاهرةوطهران. ومع أن الحكومة المصرية تعهدت بالتزام الاتفاقات الدولية واحترام معاهدة السلام مع إسرائيل، إلا أن نتانياهو بقي مصراً على إبداء قلقه أمام السفير الأميركي أيضاً. وقد طلب من مستشاريه وضع رؤية سياسية كاملة عن احتمالات تغيير الأنظمة العربية الصديقة للغرب، وانعكاس هذا الأمر على مستقبل القضية الفلسطينية. تقويم المستشارين شدد على أهمية التفوق العسكري النوعي مقابل تسلح الدول العربية وقدراتها المتطورة. واقترحوا أيضاً خططاً جاهزة لتنفيذ أعمال هجومية استباقية في حال قيام مواجهة مفاجئة. وكرروا قلقهم من البناء العسكري الكمي والنوعي للجيش المصري، والتهديد المحتمل الذي يمثله للقوات الإسرائيلية. كذلك أعلنت وثيقة المستشارين عن معارضتها القوية لصفقة مصرية - أميركية تحصل بموجبها القوات المسلحة المصرية على صواريخ مضادة للإشعاعات. ومثل هذه الذخائر في نظرهم، تمثل تهديداً قوياً للتفوق النوعي الإسرائيلي. وفي نهاية الوثيقة، شدد المستشارون على أهمية المحافظة على معاهدة السلام مع مصر كونها تمثل قيمة استراتيجية لا تعوض. لهذا السبب وسواه تتوقع واشنطن اجتراح مبادرة شجاعة يقوم بها نتانياهو قبل أن يدركه تسونامي التغيير أيضاً. * كاتب وصحافي لبناني