على رغم إيجابية أداء جامعة الدول العربية في مواجهة الأزمة الليبية قياساً إلى الوتيرة المعتادة ذات السقوف المتدنية لعمل هذه المؤسسة، إلا أنه لم يلبِ تطلعات الليبيين ولم يوفر الضمانات المطلوبة لإنقاذ شعب عربي يطلب حريته من براثن رجل تجاوز حد الاستبداد، إلى حد العبث السياسي الذي طالما فاق الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وعلى رغم أن تعاطي مجلس الأمن الدولي مع الأزمة كان إيجابياً على نحو مبدئي سواء بفرضه لحزمة من العقوبات على النظام الليبي أولاً، ثم الحظر الجوي على ليبيا على نحو يحرم قوات القذافي من الهيمنة الجوية على ساحة الصدام مع الثوار، إلا أنه لم يكن إيجابياً على صعيد التوقيت، فالأزمات العسكرية بطبيعتها تحتاج إلى حسم سريع لأن تكلفتها عالية جداً على الصعيدين: البشري والمادي. كما أن وقائعها تتغير بسرعة وبعض الصراعات قد تحسمها الساعات وليس فقط الأيام. وفي الأزمة الليبية تصير الحاجة إلى السرعة أكبر، لأن النظام يبدو شديد البطش ضد شعبه الذي يكاد لا يملك شيئاً من العتاد ناهيك عن مشكلة التنظيم والاحترافية، وهو الأمر الذي مكّنه من تحقيق تفوق كبير عليهم في الأيام الأخيرة. ترجع مشكلة البطء الدولي في جانب كبير منها إلى وجود حساسية داخل مجلس الأمن من قبل روسيا والصين ضد التدخل الغربي الذي توافق عليه الولاياتالمتحدة ولكنها لا تندفع إليه خشية أن تتهم باستعادة النزعة التدخلية بعد حربي أفغانستان والعراق، وهو نهج بدا الرئيس أوباما وكأنه قد تجاوزه، بل أنه بنى شرعيته السياسية على أساس هذا التجاوز. أما الأوروبيون فهم كعادتهم مترددون ولكنهم لا يمانعون مبدئياً في تقديم العون، فيما يبقى الموقف الفرنسي هو الأكثر تحفزاً لعمل عسكري من نوع ما سواء كان حظراً جوياً شاملاً، أم مراقبة جوية للقوات الليبية، مع توجيه ضربات مقننة إليها وتشويش اتصالاتها على نحو يعيق عملها ويربك خطواتها وقد يلحق بها خسائر جسيمة فيما يمنح الثوار تفوقاً معنوياً وتكافؤاً ميدانياً على الأقل. يحتاج المجتمع الدولي أن يحسم أمره بالتدخل على هذا النحو الذي لا يمكن توصيفه احتلالاً أو حتى تدخلاً سافراً، ولكن هذا لن يحدث لا بالسرعة ولا الفعالية المطلوبة من دون أن يحسم العالم العربي موقفه ويقدم تفويضاً أكثر وضوحاً للمجتمع الدولي بهذا التدخل ولن يكون هذا التفويض واضحاً من دون إبداء الاستعداد للإسهام في الجهد الدولي العسكري ضد نظام القذافي على منوال ما حدث في مواجهة الغزو العراقي للكويت، عندما تضافر الجهد العربي مع الدولي في تحالف ضد العدوانية العسكرية لنظام صدام حسين أدى لدحره وتحرير الكويت، والحفاظ على الشرعية الإقليمية وسيادة إحدى الدول الأعضاء في النظام العربي، والمنظمة الدولية. ربما لم يقدم نظام القذافي على تهديد الشرعية الإقليمية أو الأمن الدولي كما فعل صدام حسين، لكن المبررات الإنسانية والسياسية للتدخل موجودة تماماً، فالأمر المؤكد أنه قد تورط في جرائم حرب، وأعمال ضد الإنسانية من قبيل تلك التي دعت إلى ممارسة حق التدخل الدولي الإنساني في كوسوفو وفي البوسنة. ومن وجهة النظر العربية يبدو التدخل الحاسم أكثر جاذبية، ذلك أن الشعب الذي تهدر دماؤه شعب عربي، والثروات التي يتم إهدارها ثروات عربية، وأن الأخطار التي تحيط بليبيا فيما لو امتدت الأزمة وتحولت حرباً أهلية كاملة هي أخطار محلقة بالعالم العربي أساساً. كما أن القذافي كان تورط في كل الآثام الممكنة في الداخل، ناهيك عن مغامراته المكلفة في الخارج، بأوهام امتلاكه طموحاً قومياً، ونزعة استقلالية، ومشروعاً أيديولوجياً يمكن تصديره إلى العالم. وظل الشعب يدفع ثمناً باهظاً لهذا المشروع الغامض للنظام الليبي وما كان يتطلبه من بناء ترسانة أسلحة كيماوية، ومحاولة امتلاك أسلحة نووية، قبل أن ينقلب النظام على نفسه خوفاً من الغرب، وخشية تكرار نموذج صدام حسين بعد احتلال العراق، مجرداً نفسه من كل تلك الأوهام طلباً لمجرد البقاء من دون أن يكلف نفسه عناء تبرير سلوكه، وشرح موقفه لشعبه، والإجابة عن تساؤلاته المحبطة والصامتة: لماذا كان هكذا، ولماذا صار كذلك؟ قد لا تكون جامعة الدول العربية قادرة على توفير الإجماع حول قرار من نوع التدخل العسكري وهو الأمر نفسه الذي كان حدث إبان الغزو العراقي للكويت، ولكن من الممكن لتحالف عربي متجانس أو حتى دولة كبرى قادرة على تقديم ذلك الدعم مثل مصر. وعلى رغم أننا نقدر طبيعة الأوضاع الراهنة في مصر، والدور الذي يلعبه الجيش في مجريات عملية التغيير السياسي الدائرة في البلاد، والتي تبرر عدم الزج بمصر في آتون التفاعلات الإقليمية مبكراً إلا أن الدور العسكري المصري في ليبيا يبدو ممكناً كما أنه ضروري لأكثر من سبب: الأول كون التدخل المطلوب الآن جوياً فقط، ومن المعروف أن القوات الجوية المصرية هي الأكثر غياباً عن المشهد السياسي الدائر في مصر، فهي غير منوطة بدور معين لا في ضبط الأمن في الشارع، ولا حتى في إدارة عملية التحول، ولا تزيد مشاركتها عن وجود قائدها ضمن المجلس العسكري القائم بأعمال رئيس الدولة، وهو أمر لا يعيقه عن تقديم تلك المساهمة الضرورية لحماية شعب عربي شقيق وجار، خصوصاً أن القوات الجوية المصرية ذات كفاءة عالية ولديها تقاليد عريقة تجعل من قدرتها على أداء مهمتها أمراً ميسوراً. والثاني هو أن العبء الأساسي لهذا التدخل سيقع غالباً على الولاياتالمتحدة، ولكن مجرد الوجود المصري ضمن الجهد الدولي/ الغربي/ الأميركي الداعم للشعب الليبي سيمنحه شرعية عربية مؤكدة، وينفي عنه صفة «التدخل العسكري الغربي» خصوصاً إذا ما أقدمت دولة عربية أخرى أو دولتان على تقديم أي نوع من الدعم ولو الرمزي للجهد الدولي. أما الثالث فهو إعطاء رسالة سياسية عن طبيعة الدور المصري «النشط» خارجياً في المرحلة المقبلة، كانعكاس للحالة النشطة في الداخل. والمفارقة هنا أن مثل هذا الجهد الخارجي قد يلعب دوراً إيجابياً في تكتيل الجبهة الداخلية المصرية خلف قواتها الجوية، وتساعدها على تجاوز بعض الانقسامات التي تنمو حيال كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، فالمعروف عن المصريين، كأي شعب آخر، وربما أكثر، أن التحديات الخارجية تلهمهم، وتستقطب اهتمامهم، وتدفعهم الى تجاوز انقساماتهم، وخصوصاً عندما يكون المبرر لهذا التدخل مركباً من دوافع: قومية وإنسانية وأخلاقية وتحررية تتوافق وتتوازى مع قيم الثورة المصرية. * كاتب مصري