«انتعاش جديد وأمل يلوح في أفق صناعة الصحافة خلال نهاية العام الماضي، ومطلع العام الحالي بعد تدفق اللاعبين الرقميين إلى المشهد الصحافي، قادمين من قلاعهم الرقمية، متسلحين بالمعرفة التقنية، حاملين معهم المال الجديد، تحفزهم التطلعات لجلب أفضل المواهب الصحافية»، هكذا افتتح مركز الدراسات الأميركي Pew ملخص تقريره السنوي الأشهر عن حال وسائل الإعلام الأميركية لعام 2014، مستطلعاً أحد التوجهات المستقبلية في صناعة الصحافة، والمتمثلة في دور اللاعب الرقمي الذي قرر القفز إلى مسرح صناعة الصحافة في أميركا، قادماً من فضاءات بعضها غريب ليس له علاقة بالصحافة، لكنه مع ذلك على استعداد لضخ الأموال للاستثمار في هذه الصناعة. وأفاض التقرير في وصف هؤلاء القادمين الجدد بأنهم عبارة عن شركات هي في الأصل علامات تجارية رقمية ناجحة، وسرّ نجاحها فهمها المتأصل للتقنية، لكنها جاءت إلى الصحافة لتضخ جزءاً من الإيرادات التي تتحصل عليها من مشاريعها الرقمية التي ليس لها علاقة بالصحافة في استثمارات ومشاريع صحافية. تطلُّع الرقميين إلى منصة الشراكة في صناعة المشهد الصحافي لم يكن يسير في خط معاكس أو مناكف للأعراف التي أرستها المؤسسات الصحافية التقليدية في صناعة الصحافة والمحتوى الإخباري، فعلى العكس من ذلك جاء أولئك الرقميون وهم يدركون أن أموالهم وأفكارهم الرقمية لن تنجح في الاستثمار بالمحتوى الإخباري ما لم يتم التوسل إلى تحقيق ذلك بالخبرات الصحافية المرموقة، لذا جاء هذا التطلُّع الرقمي في الاستثمار في صناعة الصحافة ليقود معه رحلة واعدة لأمهر الكوادر الصحافية في المؤسسات التقليدية، الذين أغراهم العالم الرقمي بالهجرة إليه. فبحسب التقرير، انتقل مارك سكوفس أحد الفائزين بجائزة البوليتزر الشهيرة بعد خبرة 13 عاماً في الوول ستريت جورنال، ومؤسسة بروبابليكا للصحافة الاستقصائية إلى الموقع المعروف تقليدياً بمواده الترفيهية، وأخباره الاجتماعية البسيطة BuzzFeed ليدير وحدة التحقيقات الصحافية في الموقع، في بيان مكتوب تم توزيعه على وسائل الإعلام الأميركية، وصف سكوفس هذا الانتقال بأنه «توجّه لإخضاع مواد الموقع إلى أفضل أعراف الصحافة الأميركية في البحث والاستقصاء». لم يكن سكوفس يمثل حالاً استثنائية في هذا التحول، بل أسماء كبيرة في أعرق المؤسسات الصحافية الأميركية لم تصمد هي الأخرى أمام إغراءات العالم الرقمي، ووهج التقنية المبشِّر بفتوحات جديدة في صناعة الصحافة لا تشبه كثيراً تلك التي عهدوها في قلاعهم التقليدية، فهذا مساعد مدير التحرير السابق في نيويورك تايمز جيم روبرتس يخضع لإغراء «ماشابل» Mashable الشبكة القائمة في محتواها على جمع الأخبار من مواقع الشبكات الاجتماعية، ليصبح الرئيس التنفيذي للمحتوى في الموقع، وفي خطوة مماثلة، هجر عزرا كلين واشنطن بوست بعد شبكة بلومبيرج الإخبارية، وقناة إم إس إن بي سي MSNBC إلى شركة فوكس ميديا الرقمية Vox media. وعلى رغم أن هذا التحول الذي تعاطى معه التقرير يمثل الحال الصحافية في أميركا، إلا أنه حتماً يحمل سمات أحد أهم النماذج المقبلة - إن لم يكن أهمها - لشكل صناعة المحتوى الإخباري في المستقبل، لاسيما أنه لن يكون من الصعب ملاحظة أن المحيط الذي ينتظم فيه حراك النماذج السابقة للممارسات الجديدة في الصحافة هو الفضاء الرقمي القائم على إمكانات البنية التحتية للاتصالات وتقنية المعلومات، وهو ما يمثل - إضافة إلى عوامل أخرى - مدخلاً معتبراً لقراءة ملامح هذا التحول في الممارسة الصحافية في دول أخرى من العالم، ومنها الواقع الصحافي في السعودية. وباستقرار النماذج السابقة المراهِنة على الدمج بين المعرفة الرقمية والتقاليد الصحافية، وهو الشعار الذي – بحسب التقرير - ولج من خلاله الرقميون إلى المشهد الصحافي «تقنيون من الداخل، صحافيون من الخارج»، تأتي حزمة من المؤشرات لترشح نجاح هذه النماذج في المملكة، وبعدد من المؤشرات أيضاً، يأتي الواقع الصحافي في المملكة مرشحاً لتصدر صناعة هذا النوع من المحتوى - ربما - على مستوى الوطن العربي. السعودية .. مناخ رقمي واعد مناخ رقمي واعد تقرره عدد من المؤشرات التي يأتي في طليعتها أن لدى المملكة أكبر سوق اتصالات وتقنية معلومات على مستوى الشرق الأوسط من حيث القيمة الرأسمالية وحجم الإنفاق، مدعوماً ببنية تحتية متينة، إضافة إلى نسب انتشار عالية في خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات، بعضها يصنف - بحسب الاتحاد الدولي للاتصالات - ضمن الأعلى عالمياً كما في انتشار خدمات الهاتف المتنقل، والمرتبطة غالباً بالأجهزة الذكية التي تمثل أحد أهم مسارح الترويج للمحتوى اليوم. يرفد ذلك انتشار كبير للأجهزة الذكية «تقريباً، بين كل 10 سعوديين، هناك 7 منهم لديه هاتف ذكي بحسب دراسة حديثة»، إضافة إلى أرقام عالية في استهلاك البيانات لدى الفرد في المملكة، ما يجعل من المفهوم أن يلجأ محرك البحث العملاق «غوغل» إلى الإعلان عن أن السوق السعودية الأسرع نمواً على مستوى العالم، مؤكدة عزمها على توسيع استثماراتها في هذه السوق على إثر بيانات خاصة بالشركة كشفت أن المستخدم في السعودية يتفوق على أي فرد آخر في العالم في عدد ساعات مشاهدة «يوتيوب». وفي السياق ذاته تشير تقارير صحافية متداولة إلى تصدُّر المستخدمين السعوديين على شبكة التواصل الاجتماعي «تويتر» قائمة المستخدمين الأكثر نشاطاً على مستوى العالم. كل هذه الأرقام تأتي لتبشر بواقع رقمي واعد، ويمكن حتى الآن تلمس أهم ملامح هذا الواقع في هذا العدد المعتبر من البرامج «اليوتيوبية»، والمشاريع الرقمية الأخرى التي يقوم على تطوير محتواها شبان سعوديون ومؤسسات سعودية، غير أن الحديث هنا يقتصر على «المشاريع الرقمية ذات العلاقة بصناعة المحتوى الإخباري». وبتأمل واقع صناعة الصحافة في المملكة، لا يوجد الكثير من المؤشرات التي تدل على أنه تم استثمار هذا الواقع الرقمي في المملكة من المؤسسات الصحافية في إنجاز خطوات متقدمة، كان من شأنها بحسب متخصصين في المجال «ليس فقط تحصين المؤسسات الصحافية بمداخيل جديدة، بل حتى تحصين العمل الصحافي من التقاليد المهنية المغلوطة». من الشكاوى التي تتكرر كثيراً على لسان بعض منتسبي المؤسسات الصحافية في المملكة أن استسهال ممارسة العمل الصحافي من مواقع منتشرة عبر الشبكة، وتقدم نفسها كمؤسسات إعلامية ومصادر للأخبار قاد «إلى استقرار ممارسات مهنية مغلوطة على أنها ممارسات مقبولة». كما أن تأخر صناعة الصحافة في المملكة عن تبني إمكانات الواقع الرقمي المتاح أمامها ربما أسهم في إفساح الطريق أمام بعض «الهواة وغير المحترفين» ليقدموا ممارسة صحافية غير مضبوطة بتخصص ولا بأعراف مهنية، فتصدر بعضهم بذلك صناعة الأخبار والترويج لها، بعد أن وجدوا أنفسهم بلا منافس على منصات إخبارية، يعرفون الأبعاد التقنية لها، لكنهم بلا أدوات أو معرفة رصينة بصناعة الصحافة. وعلى رغم أنه لا يوجد حتى الآن في المملكة الكثير من العلامات الرقمية الناجحة والمستقرة ذات العلاقة بصناعة المحتوى الإخباري، وفق النماذج التي رصدها تقرير Pew، خصوصاً أنه عند الحديث عن التجربة الرقمية الخاصة بمشاريع صناعة المحتوى الإخباري في أميركا، سيكون من الصعب فصل ذلك عن حجم السوق الذي تشكل مداخيله - بحسب Pew - من صناعة الصحافة سنوياً ما يربو على 60 بليون دولار، إلا أن الفضاء الرقمي في المملكة مليء بمؤشرات مشجعة حول تجارب رقمية ربما تكون معتبرة في المستقبل، بعد تطوير أدواتها في صناعة المحتوى الصحافي. هناك نماذج لعلامات تجارية رقمية سعودية لم تستقر تجربتها الصحافية بعد، إذ لا يملك بعضها حتى الآن الإمكانات التي تؤهله لجذب أو انتزاع كوادر مرموقة من المؤسسات الصحافية التقليدية، لكن يمكن ملاحظة نموها كل يوم، مع وجود مؤشرات مشجعة على نجاح توظيفها في صناعة المحتوى الصحافي، وبعضها مشاريع يقوم على تطوير محتواها شبّان سعوديون، وتبدو جديرة بالاعتبار. ويحضر في هذا السياق كمثال – على سبيل الذكر لا الحصر - «هاشتاق السعودية» الذي بدأ كمجرد حساب في «تويتر» يقوم على جمع الوسوم الأكثر تداولاً ونشرها للجمهور، حتى توجه نحو مؤسسة عمل هذه العلامة وتطويرها من خلال توسيع نشاطها، مع تطوير موارد مالية تضمن استقرارها، وكان من ضمن هذه الموارد تسوية شراكات مع عدد من المؤسسات الصحافية لتسويق أخبار هذه المؤسسات على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر». ويبدو من هذا الواقع أن المؤسسات الصحافية ذات الملاءة المالية الجيدة، والخبرة الصحافية، هي أفضل لاعب يملك الإمكانات والمهارة للقيام بشراكات أو استحواذات على مشاريع من هذا النوع، وتقديم تجربة رقمية سعودية معتبرة في صناعة المحتوى الإخباري. على مستوى العالم، لم يعد أمام المؤسسات الصحافية الكثير من الخيارات إزاء التغييرات التي تحيق بصناعة الصحافة قادمة من الفضاء الرقمي، ويبقى خيار تبني الأفكار القادمة من هذا الواقع أمراً حيوياً، لا يقع بالتأكيد في خانة الترف، إذ تجمع الكثير من التقارير المهتمة باستقراء صناعة الصحافة أن مستقبل الصحافة لم يعد بيدها، فهناك شركاء آخرون ليس لهم علاقة أصيلة بالصحافة لكنهم يتحكمون برسم الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه مستقبل صناعتها، ويتحكمون بخصائص القراءة، وشكل عرض المحتوى، وحدود الصورة التي ستعرض، وجودتها، وفي المساحة التي ينبغي أن تتاح للنص، وشكل التفاعل مع الجمهور، وآليته، وطول مدة مقطع الفيديو المرفوع، وغيرها من الأوليات التي كان يرتبها في الماضي رجل الصحافة. بل حتى على مستوى الإعلان، بات هؤلاء شركاء في الكعكة، إذ لم يعد بوسع أية مؤسسة صحافية أن تجني أرباحاً من إعلاناتها الرقمية ما لم تخضع إلى شروط الاستفادة من تطبيقات ومنصات هؤلاء الشركاء الجدد. فيما يتعلق بالواقع الصحافي السعودي، يبدو المستقبل واعداً في هذا المضمار، والأمل هو ألا تفوّت المؤسسات الصحافية السعودية «الفرصة» مرتين. في البداية ومع انفجار استخدام الشبكات الاجتماعية، تأخرت بعض هذه المؤسسات في الانخراط بهذه المنصات حتى سبقها الأفراد، مكرّسة بذلك فكرة «تقليديتها» وتأخرها الرقمي، وفي ثنايا العالم الرقمي، هناك مشاريع رقمية سعودية جديرة بالتأمل، إن لم تقتنصها اليوم ربما تقتنصك غداً. * متخصص في الصحافة ووسائل الاتصال.