حين يقال إن «الأمور تسير بالبركة» أو أنها «تمضي بقوة الدفع»، فإن هذا يعني أنها تعمل في خواء تنظيمي. ومن المثير أن استقصاء بسيطاً للأمور يكفي للقول ان الإنترنت ومعطياتها وجمهورها تسير وفق «قانون البركة» في غالبية البلدان العربية. «وثيقة إعلان استقلال الفضاء التخيّلي» في عام 1996، كتب جون بيري بارلو، وهو أحد نشطاء الإنترنت، إلى «منتدى دافوس» وثيقة أطلق عليها «وثيقة إعلان استقلال الفضاء التخيّلي». وطلب ألا تتدخل الحكومات في تنظيم عمل الإنترنت من خلال قوانين محددة. وقال: «يا حكومات العالم الصناعي... يا عمالقة اللحم والحديد المملين. أنا من الفضاء التخيّلي، بيت العقل الجديد. نيابة عن المستقبل، أسألكم انتم يا أصحاب الماضي أن تتركونا وشأننا. غير مرحب بكم بيننا. لا توجد لديكم أي سيادة في أماكن تجمعنا. ليست لدينا حكومة منتخبة، ومن غير المحتمل أن تكون لدينا واحدة. لذلك، لا أخاطبكم بسلطة اكبر من تلك التي تتحدث بها الحرية دائماً. أعلن أن المساحة الاجتماعية الكونية التي نقوم ببنائها مستقلة بطبيعتها عن الطغيان الذي تسعون إلى فرضه علينا. ليس لديكم الحق المعنوي لحكمنا... ولا تملكون أي وسائل نجدها مخيفة لإجبارنا على ذلك». لكن الحقيقة هي «أنهم» يملكون شتى أنواع الوسائل. وعلى رغم ذلك، فإن الفضاء التخيّلي يسير في مصر ومعظم الدول العربية بفضل «البركة». ففي مصر، أثارت دراسة صدرت العام الماضي عن «مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار» التابع لمجلس الوزراء الكثير من الاستغراب. وأعلنت الدراسة حينها أن عدد المُدوّنين الإلكترونيين في مصر يقدر بنحو 162 ألفاً، غالبيتهم من الشباب. ولا يرجع الاستغراب إلى نتيجة الدراسة، التي أجرت مثلها عشرات المراكز الحقوقية والمعنية بالتقنيات الجديدة، بل في كونها دراسة حكومية. فقد اعتُبِرَت إعترافاً رسمياً مبطّناً بأهمية الفضاء التخيّلي. هذا الاعتراف المبطن سبقته اعترافات أخرى غير مباشرة من القنوات التلفزيونية الخاصة التي استعانت غير مرة بمُدوّنين إلكترونيين في برامجها باعتبارهم ضيوفاً مهمين يتحدثون عن أعمالهم، وباعتبارهم أيضاً مصادر لأخبار هزَّت المجتمع المصري. ومثلاً، كان من شبه المحرّم الحديث علانية عن المعاملة «غير اللائقة» التي يلاقيها بعض المواطنين في أقسام الشرطة، والمندرجة حقوقياً تحت بند «الإهانة» و«التعذيب» و«القتل». ثم تفجّرت تلك القضية عبر شاشات الفضائيات الخاصة التي عجزت عن مقاومة «سحر» الأفلام المحملة على المُدوّنات الإلكترونية والتي تصور ما بدا أنه تعذيب من قِبَل ضباط شرطة لمواطنين. ووُصفت تلك الأفلام ب«الشرطة كليب». وأدى ذلك الى تحقيق نقلة نوعية في عالم التدوين الإلكتروني والمواقع الشخصية، فصارت جزءاً من النقاش العام. كما سجّل المُدوّنون الرقميون السبق في تغطية أحداث مثل «مجزرة» اللاجئين السودانيين في ميدان مصطفى محمود في حي المهندسين (2005)، والانتخابات البرلمانية (2006) وغيرها. وفي ورقة أعدها المُدوّن الرقمي أحمد ناجي عنوانها «العلاقة بين الصحافة التقليدية والإعلام الإلكتروني» تنافس أم تكامل؟»، يرد بأن النقلة الحقيقية التي طرأت على عالم المُدوّنات الإلكترونية ابتدأت مع مسألة التحرشات الجنسية في وسط القاهرة. إذ شهد عليها مُدوّنون إلكترونيون مثل وائل عباس (مُدوّنة «الوعي المصري») الذي التقط عدداً من الصور في شأنها، ومالك مصطفى (مُدوّنة «مالكلم إكس») الذي سجل شهادة وافية عنها. ويرد في الورقة أن «ما قدمته المُدوّنات الرقمية من تسجيل للتحرشات الجماعية صادم ومتجاوز للخطوط الحمر للإعلام التقليدي. وفي البداية، امتنع عدد من الصحف عن نشر أخبار التحرشات، إلى أن تزايد عدد المُدوّنات التي كتبت عما حدث مدعمة معلوماتها بالصور والأشرطة المرئية. وأمام هذا الضغط نشرت الصحافة الورقية خبر ما حدث في وسط البلد نقلاً عن مُدوّنات الإنترنت. وسجّل الإعلام الإلكتروني المستقل نقطة في مصلحته». وترى الورقة ذاتها أن أبرز أسباب هذا النجاح يتمثّل في غياب الخطوط الحمر عن الإعلام الإلكتروني. وتشير الورقة أيضاً إلى أن المُدوّنات فرضت وجودًا يومياً في الصحافة الورقية، «إذ بات من الصعب أن نجد جريدة أو مجلة لا تحتوي على اقتباس منها». وفي حديث الى «الحياة»، رأت الصحافية نشوى الحوفي معدّة برنامج «العاشرة مساءً» الذي يبث على قناة «دريم» الفضائية، أن الإعلام يستعين بالمُدوّنين الرقميين في قضايا مثل أثر المُدوّنات على الحياة العامة، أو مدى قدرتها على إحداث تغيير في الشارع المصري، وليس باعتبارهم مصدراً للأخبار. ونظرت الى اعتماد التلفزة، ومنها «دريم»، عليهم كمصدر للأخبار عن ظاهرة التحرّشات يعود الى أسباب ظرفية. ففي برنامج «العاشرة مساءً» مثلاً، استُضيفت الصحافية نوارة نجم للتحدث عن الدراما الرمضانية. وتحدثت الضيفة عما رأته من حوادث تحرش في وسط القاهرة. واستشهدت بما ورد في عدد من المُدوّنات الإلكترونية، ما أجبر البرنامج على الاستعانة بهم. وأضافت الحوفي أن الكثير من أشرطة المُدوّنات الرقمية غير واضحة، ما يؤدي إلى استضافة بعض المُدونين الرقميين للحديث عنها، كما حدث مع المُدوّن وائل عباس. في المقابل، لاحظ عباس أن التلفزة أقلعت عن استضافة المُدوّنيين الإلكترونيين في الآونة الأخيرة. وفي حديثه الى «الحياة»، أعرب عن ميله للقول بوجود «اتفاق جنتلمان» بين التلفزة والسلطات الرسمية. ورأى عباس أن ظهور المُدوّنين الإلكترونيين على الشاشات الفضية سلاح ذو حدين. إذ يمنحهم ظهورهم العلني نوعاً من الحماية، لأن دخولهم إلى الحيز العام يجعل التعرض لهم بالسوء أمراً صعباً، من غير أن يستبعد حدوث ضغوط بطرق غير مباشرة. في غيبة القانون ما زالت استضافة المُدوّنين الإلكترونيين على الأقنية الفضائية خارج إطار التنظيم الواضح. ولذا، رأى المُدوّن عباس إن المحاسبة في فضاء الإنترنت تجرى ضمن قوانين النشر المتبع في الوسيط الورقي. واعتبر أن ذلك لا ينسجم مع طبيعة الفضاء الإلكتروني الذي يتميز بحرية من دون حدود، وأن تقييده يحوّل إلى ساحة أخرى خاضعة للقهر والكبت والرقابة. وفي هذا السياق، وجهت «لجنة حماية الصحافيين» رسالة إلى الرئيس المصري أخيراً سلّطت فيها الضوء على غياب العلاقة بين المُدوّنيين الإلكترونيين وأصحاب مواقع الإنترنت من جهة، والحكومة من جهة أخرى. ولاحظت عدم وجود قوانين أساسية يُحتكم إليها عند نشوب «خلاف» بين الجهتين، خصوصاً إذا ما اعتمدت الحكومة على إرهاب العصا في حال غضبها من المحتوى الإلكتروني. وجاء في الرسالة أيضاً أن اللجنة تكتب ل«الاحتجاج على حملة القمع الشديدة التي تشنها أجهزة الأمن المختلفة ضد الصحافيين الذين ينشرون على شبكة الإنترنت وضد المُدوّنين الإلكترونيين... وعلى رغم تعهدكم في شباط (فبراير) 2004 بتحرير قوانين الصحافة في مصر وإزالة الصفة الجنائية عن مخالفات الصحافة، واصلت أجهزة الأمن المصرية والجهاز القضائي الضغط على الصحافيين المستقلين والمُدوّنين الرقميين عبر مضايقات قانونية وأخرى خارج نطاق القانون، إضافة إلى الاحتجاز الإداري لفترات طويلة تحت ستار قانون الطوارئ الممتد منذ 28 سنة... واستُهدف المُدوّنون بقسوة شديدة، لا سيما أنهم يفتقرون للحماية المؤسسية النسبية المتوافرة لبعض الصحافيين، كما تزايدت حالات الاعتقال في صفوفهم». وفي حوار مع «الحياة»، أكّد جمال عيد، وهو حقوقي متخصّص في حريات الإنترنت، أن قوانين النشر التي تستخدم حالياً ضد المُدوّنين وكتّاب المحتوى الإلكتروني، تهدف التقييد وليس التنظيم. وقال: «مازالت الإنترنت أداة حديثة نسبياً، والجهات المعنية ما زالت غير قادرة على التعامل معها بالشكل المناسب لطبيعتها». ورأى أن مشكلة تنظيم محتوى الإنترنت لا تقتصر على فحوى القانون وماهيته، ولكن في كيفية تطبيقه وتحديد الأشخاص الذين يطبق عليهم. وقال: «ماذا يحدث في حال كتب مواطن مصري محتوى نقدياً لدولة ما على الإنترنت، في موقع يرجع اسم نطاقه إلى السعودية ومُحمّل على خادم إنترنت في كندا؟ من له حق محاكمة الكاتب؟ وما هي الدولة التي يحق لها محاكمة المحتوى قانونياً؟». وأعرب عن قناعته بأن مثل هذه الأسئلة يلزمها اجتهاد في الإجابة. وقال: «إن الروح السائدة عربياً تتمثّل في اللجوء إلى قوانين التقييد وليس التنظيم». وأضاف: «أعتقد أن الوضع راهناً، على رغم عِلاته، أفضل من تقييده بقوانين محددة الملامح». وفي السياق نفسه، أفاد الدكتور نبيل مدحت أستاذ القانون الجنائي في جامعة عين شمس، أن إنشاء المواقع الإلكترونية يدخل فى نطاق الحرية الخاصة بالرأي والتعبير، وإن أغلب الدول تترك مساحة لهذه الحرية بحيث يصبح إنشاء هذه المواقع غير خاضع للرقابة. وقال: «من الناحية الفعلية، لا يمكن إجراء رقابة مسبقة على المواقع لأنها تتحرك من خلال شبكة عالمية لا تخضع لقوانين دولة بذاتها... يمكن للدول تنظيم استخدام هذه المواقع بحيث يخضع ما ينشر فيها للضوابط القانونيه ذاتها التي تنظم العلاقات في المجتمع، بحيث تتناسب العقوبات مع نوع الجرم المرتكب». وفي المقابل، عبّر كثيرون عن الخشية من ميل بعض المواقع الإلكترونية إلى الابتذال والخروج على القيم، خصوصاً تلك التي تتيح للأفراد التعبير عن مكبوتاتهم بحرية. وطالبوا بإشراف حكومي عليها. ورأوا ضرورة في تشفير المواقع والمُدوّنات التي تندرج تحت بند «الإباحي». ودعوا الأهل الى رقابة أبنائهم في المنزل، مع إعطائهم بعض الحرية في التحرك على الشبكة الإلكترونية. br / وتُخالف خبيرة الإنترنت ربيكا بلود هذه الأراء، كما يظهر في مقالها «أخلاقيات التدوين» الذي يجرى تداوله على عدد ضخم من المُدوّنات والمواقع الإلكترونية العربية. وجاء فيه: «ينشر المُدوّنون المعلومات، ويعلقون عليها وفقاً لمعاييرهم الخاصة. قد يرجع السبب الحقيقي لاهتمام مؤسسات الأخبار بظاهرة التدوين الإلكتروني، إلى التأثير المحتمل لشبكة المُدوّنات. وربما لا يفكر المُدوّنون الرقميون من منطلق التحكم والتأثير في مجريات الأمور، لكن الإعلام التجاري يفعل ذلك. الصحافيون التقليديون يدركون احتمالات الاستغلال السيّء لعملهم، وقواعدهم الأخلاقية مصممة لتحدد مسؤوليات الصحافي ولتقدم ضوابط واضحة للسلوك لضمان نزاهة الأخبار. وأغلب الظن أن المُدوّنات الإلكترونية التي ينتجها غير المحترفين ليس لها مثل هذه الضوابط. ويبدي أصحابها فخرهم بأنهم هواة... إن أعظم نقاط قوتهم، أي إنعدام الرقابة على حرياتهم، هي أيضا أعظم نقاط ضعفهم».