في كتابه «الحب والفناء: المرأة. السكينة. العداوة» (الدار العربية للعلوم) يجلب المفكر اللبناني علي حرب الحب، خلافاً للمعهود من نتاجه كمواضيع للكتاب. وانطلاقاً من مديح المرأة، يمضي الكتاب في قسمه الأول ناعتاً إياها بأنوار الوجود التي أهل أن يُجنّ بها العشاق. فالجنون لأجلها أعقل جنون، والسكر بحبها عين الصحو. إن المرأة ذات الجمال هي نسيج وحدها. وكل جميلة تثير في رائيها دهشة يحس معها كأنه يرى المرأة للوهلة الأولى. إنها الفردوس الضائع الذي لولا ضياعه لما كان فردوساً قط. لكن الشوق إلى المرأة لا ينقطع، ووصالها لا يقنع. ولذا فما إن يساكنها الرجل حتى يملها، ويميل إلى غيرها. ولدوام العلاقة، فالأصلح أن يتقن كل منهما لعبة التشويق، فلا يهتك كل الحجب عن شريكه، بل يدع ستراً رقيقاً بينهما، درءاً للملل. إن المرأة والرجل متشابهان من جهة، ومختلفان من أخرى، وهذا مدعاة الانجذاب، إذ كما يسفر التشابه عن الألفة، يولد الاختلاف الافتتان. أمّا الفارق بينهما ففارق بين الخارج والداخل، والخشونة والرقة، ولنقل بين الجلال والجمال. هو يأسرها بجلاله، وهي توقع به بجمالها. تتأهب هي للحضانة، بينما يستعد هو للنجدة. ويميل هو للهجوم، وهي للدفاع أميل. وتنشد حمايته، حيث ليس لائقاً أن يسألها الحماية. وهو الذي يطلب يدها، بينما لا يقبل أن تطلب يده. ومهما تمنعت، فالمرأة تهوى الرجل الساطي المستولي الذي يحتل قلبها، ويقرأ أسرارها. ومن جهته، يحب الرجل المرأة الرقيقة الناعمة. أيضاً، فالزوجان قد يكونان غريمين لبعضهما فور انعقاد الزواج، لا لرسوخ العداء فيهما، بل لالتقاء إرادتين مميزتين، إذ في حال التكافؤ يختل الاجتماع، ويذوقان الأمرّين. ولا يستقيم الأمر إلا إن كان أحد الزوجين آمراً والآخر طائعاً - وهي الولاية - القوامة. فلا اجتماع بلا نظام وترتيب وتراتب، أيْ سلطة. أما المساواة في الإدارة، فتجعل علاقة الزوجين قوة بقوة، وتحيل الشراكة إلى نزاع لا يلين، وتقلب التعايش جليداً في العلاقات. ولا يُلمح هذا إلى أن الرجل هو الأجدر، وإنما هو منطق الاجتماع في طورنا الحضاري هذا، حيث السيادة للرجل. أما التكافؤ في الحقوق، فما هو إلا خدعة. وحتى النساء اللائي ينادين بالمساواة، فهن أول من يسعين إلى نقضها، ويسألن الرجل حمايتهن. ويحلل الكاتب ظاهرة تعدد الزوجات بأن كل رجل يهوى كل جمال يشهده، ويحب التنوع، ويرغب في التعدد، حتى لو لم يتهيأ له، لأن الفحولة تقضي بالتعدد، في حين توجب المروءة والعدالة الاقتصار على زوجة واحدة. وقد حصر التشريع القرآني التعدد في أربع، تقنيناً لتلك الرغبة التي لا تُنكر. إن في التعدد استجابة لهوى الرجل فقط، من دون صالح المرأة، أو حتى المجتمع كما يشاع، وإن نجم عنه – اتفاقاً – حلول لمشكلات إنسانية. وحيال الزعم أن التعدد يكافح مشكلة تفوّق عدد النساء على الرجال، يفند: «مثل هذا الرأي إنما يعلل تجويز التعدد على نحو عرضي اتفاقي، بإرجاعه إلى ظرف اجتماعي طارئ، ووضع إحصائي عارض أو غير ثابت. وهذه حجة لا تقنع». ويتساءل عن الحال فيم لو فاق عدد الرجال النساء! أما دعوى المساواة في الحقوق فهي وهم. وعلى شاجبات التعدد أن يُقنعن بنات جنسهن بمجافاة الزواج من رجل متزوج. عندها فقط تبرهن المرأة مكافأتها للرجل، ويفقد التعدد شرط إمكانه. ولكن في المقابل، لا يفضي إلغاء التعدد إلى استعادة المرأة حقوقها. وسيؤدي تجاهل رغبة الرجل إلى شق نسيج الزواج، وفتح النوافذ على احتمالات، أبرزها الخيانة الزوجية. وحتى الرجل المتحضر، وإن كفّ عن التعدد، فهو لم يخلص لنظام الزوجة الوحيدة، وسدد الثمن توتراً وشذوذاً في العلاقات. إذاً ما موقف الكاتب الشخصي من التعدد؟ هو لا يدعو للتعدد، لكنه يرتئي أن إلغاءه يحتّم إعادة نظر في المؤسسة الجنسية برمتها. أي إعادة تصور الإنسان لذاته وجسده وشهواته. لقد اهتم العرب بخطاب الحب أكثر من سواهم. وإبان عصور الازدهار المستنيرة، درس الفقهاء الحب والجنس بكثافة أشد من وقتنا الراهن. وما يُمنع الخوض فيه الآن، جرى بحثه باستفاضة زمن ذاك. وهذا مستهل القسم الثاني والأخير من الكتاب. وتحت عنوان «الحب الإلكتروني»، يختم بنقاش أسئلة للحب، يطرحها هذا الزمن الرقمي: ما الممكن على صعيد الحب؟ أيتراجع الحب اليوم كما يُخشى؟ هل استعصى الحب في عصر التقنية؟ هل يتقلص إمكان تبادل العواطف بقدر ما تزيد إمكان التواصل في القرية الكونية؟ لقد شهد الحب عصوراً وأشكالاً متباينة، فما الشكل المتاح في هذه العصر الإلكتروني؟ إن «الحب والفناء: المرأة/ السكينة/ العداوة» كتاب فريد في مضماره، وجدير بالقراءة في زمن التكنولوجيا، الذي أسفر عن عواطف افتراضية، وسط وجود سبراني غير مسبوق.