على مسافة 30 كيلومتراً من مدينة ليون الفرنسية وفي قلب الطبيعة الخضراء، يقع دير للآباء الدومينيكان يعرف ب»لا توريت» (Couvent de La Tourette) وقد سُجّل عام 2016 على لائحة التراث المعماري العالمي لمنظمة اليونسكو. منذ تاريخ الانتهاء من بنائه عام 1960، تحول هذا الدير محجاً لمحبي العمارة والفنون الحديثة، لأنه من أبرز إنجازات المعماري السويسري - الفرنسي لوكوربوزييه الذي يعد من رواد العمارة الحديثة في العالم. تجسدت في عمارة هذ الدير بصورة جلية، المفاهيم المعمارية الجديدة التي فرضها لوكوربوزييه، ومنها الاعتماد على مادة الإسمنت الخام والتركيز على الواجهات الزجاجية المفتوحة على الضوء. وكما عهدناه في أعماله الأخرى، استعان لوكوربوزييه بفريق من المبدعين وفي مقدمتهم الموسيقي والمعماري اليوناني الشهير يانيس كزيناكيس. جاء تشييد هذا الدير بطلب من الآباء الدومينيكان قبل سنوات قليلة من وفاة المعماري الشهير عام 1965، ليعكس رغبتهم في مواكبة الحركات الفنية والفكرية الحديثة، وليُظهر انفتاحهم على تحديات الأزمنة المعاصرة. وبعد خضوعه لعملية ترميم واسعة مطلع هذا القرن، تحوّل الدير موقعاً ثقافياً مميزاً تُقام فيه كل سنة لقاءات ثقافية ومعارض للفن المعاصر تستقطب كبار المبدعين من العالم. الحديث عن هذا الدير اليوم يأتي لمناسبة افتتاحه معرضاً جديداً لإبداعات الفنان والكاتب والمفكر الكوري الجنوبي لي اوفان (Lee Ufan). ويقام هذا المعرض في إطار بينالي الفن المعاصر التي تتواصل في مدينة ليون وتتوزع في أماكن عدة من المدينة وضواحيها. لم يأت اختيار دير «لا توريت» لعرض أعمال الفنان الكوري صدفة، فهو بات معروفاً على المستوى العالمي وتعرض أعماله في نيويوركوباريس ولندن وهونغ كونغ وبون... وهو تجاوز الثمانين من العمر وله محترف في باريس حيث يتردد ويعمل باستمرار. عرفه الجمهور الواسع عام 2014 عندما عرضت تجهيزاته ومنحوتاته في حدائق قصر فرساي. تطالعنا في الأعمال المعروضة في الدير الأجواء نفسها التي عودنا عليها الفنان. فهناك الكثير من الروحانيات الآسيوية والاعتماد على مواد طبيعية وصناعية متنوعة كالحجر والخشب والورق... كذلك عرفت عنه معرفته الكبيرة بالفلسفة الغربية، ومن أعلامها الفيلسوف الفرنسي ميرلو بونتي. وعموماً، تتّسم أعماله بالبساطة والدعوة الى التأمل في المرئي واللامرئي وإلى الحوار بين الداخل والخارج. الأكيد هو أن عرض هذه الأعمال في صرح من صروح لوكوربوزييه فرض تحديات عدة على الفنان. وهو، أثناء لقائنا به مع وفد من الإعلاميين الذين دعوا خصيصاً الى الدير لمناسبة افتتاح المعرض، تحدث عن علاقته بالمكان ولم يُخف انتقاداته أسلوب لوكوربوزييه في العمارة بسبب طابعه الجاف وخلوه من الحرارة الإنسانية على حد تعبيره. وأضاف: «إنها عمارة إسمنتية متعالية على البشر العاديين وذات طابع متسلط وبلا مشاعر وتفتقر الى العاطفة، وهذا ما يتناقض مع طبيعة أعمالي وبحوثي الفنية». يأتي معرض أعمال الفنان الكوري كواحدة من أهم تظاهرات بيينالي الفن المعاصر في مدينة ليون التي صارت، بفضل الدعم الرسمي للفنون والمتاحف، تستقطب الفنانين من كل البلدان، ما يجعل منها ورشة دائمة وعاصمة للفن تطمح إلى منافسة باريس وغيرها من العواصم الكبرى. والمهم في هذه الدورة من البينالي أنه يظهر التيارات السائدة منذ مرحلة سبعينات القرن العشرين وما تثيره من جدل. معارض ونشاطات تسعى الى الابتكار والاستفزاز وتمتزج فيها الأنماط والعلامات بدون قواعد فنية محددة. ميزة أخيرة هي التمازج الثقافي بين فنانين قادمين من أوروبا وآسيا والأميركتين، والذي تسهم به ثورة الاتصالات الحديثة والعولمة والتكنولوجيا المتطورة والفيديو، وكلها أدوات يعتمد عليها فنانون كُثُر في تجهيزاتهم وأعمالهم المتنوعة.