اختصّ العام الفرنسي الحالي بإحياء الثقافة الكورية في فرنسا، بخاصة أن التبادل الفني عريق بين البلدين، ابتدأ منذ عام 1950 مع بدايات البعثات الفنية الكورية إلى فرنسا، ما يفسر تأثر المحترف التجريدي الكوري بغنائية «مدرسة باريس»، ويفسّر وجود كوكبة من هؤلاء الفنانين مستقرّين في فرنسا، حيث تمركزت محترفاتهم ونشاطهم الفني، مثل لي أوفان وسواه. غير أن معرفة الفرنسيين بالثقافة الكورية متواضعة مقارنةً بمعرفتهم بالثقافة اليابانية أو الصينية. وهكذا صبغت ألوان كوريا التقليدية منها والمعاصرة وأربع مدن فرنسية، ابتداءً بباريس وانتهاء بمرسيليا مروراً بمتز وليل، وضمن برنامج حافل شغل عدداً من متاحف الفن التشكيلي، تمتدّ عروضه ونشاطاته المتداخلة حتى بداية 2016. يلخّص مسؤول سنة الثقافة الكورية هنري لويريت، مجمل هذه المهرجانات بقوله: «يحدونا في هذه المناسبة، طموح يتمثل في إظهار التراث الثقافي الفني الهائل في كوريا، ودرجة زهو صناعاته إلى جانب حيوية الفن المعاصر». إذا ابتدأنا مع هذا الضجيج البصري من باريس، نرى كيف شغل المهرجان متاحف ومواقع من القطاعين العام والخاص، وحيوية الاستهلالة كانت باستضافة جناح كوريا الفني «كضيف شرف» في «بينالي ريغولسيون» الدورة الثانية، في رحابة صالات القصر الكبير في حي الشانزيليزيه. عانق الجناح 12 فناناً كورياً معروفاً اجتمعوا حول صبوة التحوّل من تقنية السيراميك التقليدية إلى ما يشبه الإنشاءات النخبوية لما بعد الحداثة، وذلك أيضاً من خلال مصالحتهم عراقة الاستلهام من الطبيعة وموادها مع أحدث التقنيات. يمتد تطور هذه الصناعة العريقة التي أخصبت الفن المعاصر في التاريخ القديم ليتزامن مع حكم سلالة شوسون، وبذلك بلغت فنون النول والإبرة والحياكة والخياطة والتطريز ذروة ازدهارها الروحي والتقني والغرافيكي. لعل أكبر هذه المعارض في باريس يستقبله أكبر متحف للفنون الآسيوية، وهو متحف غيمي القريب من برج إيفل، نعثر ضمن حشد فنونه المحلية على 27 «بارافان» (وهي الفواصل المتحركة بين الفراغات المعمارية، بمصاريعها الثنائية أو الثلاثية) ترجع إلى القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، أهداها أحد الفنانين إلى متحف غيمي عام 2001، لينجز حينها معرض: «حنين كوري». هذه البرافانات تعتبر البرزخ الأدائي المتوسط بين الحرفيات التقليدية واللوحة المعاصرة، وهو ما يفسّر وجود مئة لوحة تصويرية حديثة من القرن العشرين، ويعكس بذلك طريقة أو منهج متحف سيول للفن المعاصر، بما فيه وسائط ما بعد الحداثة من إنشاءات فراغية إلى فيديو والتعبير بأشعة ليزر الملونة وتطبيقات المعلوماتية وسواها، لذلك فإن الهوية الذوقية الكورية تبصم شتى هذه المراحل، بما فيها التجارب الحروفية وفنون الطباعة (الإستامب) وفنون المقصوصات الورقية والكرتونية الخاصة ولوحات اللاك الملونة على الخشب، وتجمع مناظرها شتى المفردات التصويرية والزخرفية، من مشاهد شعبية ورؤوس حكماء إلى مناظر مسكونة بالطيور والأسماك، أو أساطير التنين والعنقاء والكائنات الخرافية والأقنعة الطقوسية. إذا ما انتقلنا ما بين معرض متحف غيمي ومتحف الفنون الزخرفية وقصر طوكيو ومتحف برانكوشي في باريس، عثرنا على الملاحظة الجمالية المتجسدة في محاولة الفنانين الشباب رفع تراث الفنون التطبيقية إلى مستوى الفنون التشكيلية النخبوية، الى درجة أن أحدهم رفض قبول أبرز جائزة تراثية في الدولة، وهي جائزة الكنز الوطني. وذلك بهدف حفاظه على موقعه داخل مساحة فناني الحداثة والمعاصرة وما بعدها، ويلخص كوميسير المعرض أوريول صاموئيل، هذا الهاجس العام بأن «الحداثة بالنسبة الى هؤلاء تعني كسر القواعد الفنية والصناعية الموروثة، لكن بعد تعلمها وتأمل معرفتها بعمق». وهو ما يفسّر أن أشد الأعمال الفنية المعروضة حداثة تُبصم جميعها بالهوية الكورية، وتسيطر هذه الفلسفة على كامل مساحة المعرض الموسوعي في متحف الفنون الزخرفية التي يتجاوز عدد تصاميمها السبعمئة، ويبدأ تاريخها من 1970 وحتى اليوم، وتشمل شتى جوانب تجديد الصناعات التقليدية من سيراميك وزجاجيات وبورسلان وأثاث ومكتبات وبارفانات وأزياء وكرافيك وطباعة على الورق أو الأقمشة. تشارك متاحف المدن الفرنسية المذكورة في هذه التظاهرة، متحف مرسيلي ومركز بومبيدو المحدث في ميتز وتظاهرة «بسرعة، بسرعة» في متحف ليل. يشار إلى سكينة كوريا منذ القدم بتعبير «بلد الصباح الوادع». فبعد أن كانت أفقر مناطق الكرة الأرضية، ها هي منذ ما يقرب من خمسين عاماً تتحول إلى معجزة اقتصادية تتألق بمحترفات الخلق والإبداع. تثبت مهرجانات العام المخصصة لثقافتها هذه الحقيقة، وهي تنافس التألق الياباني في مجال فنون الماضي والمستقبل.