الأحد 31/5/2009: نجاة ليست وحيدة، على الطاولة، كانت الزهرة في المرج الملون ضائعة في ربيع تركناه هناك مع الزيتونة العجوز بالأسود والأبيض. وكنتِ حذرة فقطفت الزهرة لتحفظيها في القلب فلا تذبل. الطريق طويل الى المطار، ولم تذبل، والرحلة عبر المحيط ولم تذبل، وحين زرعتها في حديقة الثلج تحصنت الزهرة في الجليد الشفاف، لا تذبل بل تتكسر، كما تكسر وطن بفؤوس الجهل. ومن نافذة بيتنا الخشبي المدى الأبيض، ليس مرجنا الملون وزيتونته الدهرية، تركناهما هناك، لم تتسع الطائرة لغصن، لريش عصفور على الغصن ولا لشعاع شمس. وحيدين في بلاد، وحدها جديدة، إذ يبقى قديماً حتى آخر عمره، ذلك الناجي من وطنه الحطام، هل نجا؟ الاثنين 1/6/2009: ذهب وحديد لم يكتب اللبنانيون اسطورتهم المشتركة، بل تجارب فردية تقارب الأسطورة لا تحققها، تجارب في روايات وأفلام ومقطوعات موسيقية ولوحات. ما قبل الحرب/ الحروب كتب الأخوان رحباني في الأغاني أسطورة البلد الطهراني ينفض عن نفسه غبار الشر، فتكوّن وطن الأغنية يلجأ إليه المستمعون إذ ضاقوا بفوضى الواقع وشروره، فكأن عاصي ومنصور ومعهما فيروز قدموا للبنانيين ذخيرة النقاء لتنجو أرواحهم من رياح الحروب وكلامها وأناشيدها العسكرية. لم يكتب اللبنانيون اسطورتهم المشتركة، وهم يحتاجون الى كتابتها أكثر من أي يوم مضى. نحن امام شعب يقاد كالقطعان في انتخابات تستنفر العصبيات البدائية وخرافات التاريخ المقدسة بفعل تقادم الزمن. ثمة قاتل قديم يمكن تحويله بطلاً، وثمة رجل سطحي نعتبره رائياً عرف المسار المؤذي فلم ينخرط فيه. لا تسمح الاستنفارات الانتخابية اللبنانية سوى بإحساس القطيع، فلا مجال لفرد يفكر وحده ويقرر. والإحالة على الماضي، على رغم وطأتها، تبدو مفتعلة، إذ كيف لشعب يحفل حاضره بالأحداث الكبرى ان يحتاج الى ماض يستعير حركاته. وكم يبدو غريباً هذا الشعب حين لا تهزه دلالات تكوينه الصعبة امام ضغوط المدى الإقليمي، الإسرائيلي وغير الإسرائيلي، كما لا تهزه تجارب التنوع الديني والمؤثرات الثقافية العربية والأوروبية؟ كيف لا يهتم بهذه المشكلات الملموسة الخاصة به، فيلجأ الى الانتخابات لرسم اختياراته في شأنها وليس في شؤون مصطنعة يستوردها من تناقضات إقليمية راهنة أو من ملاسنات مذهبية في مكان وزمان بعيدين؟ أعتقد ان اللبنانيين يلعبون بكرة نار يظنونها مقدسة ويتقاذفونها. ينساقون بخفة الى مصائرهم البائسة، بعدما اعتادوا النظر الى الشأن الوطني باعتباره نتاج آخرين يتقبلونه فرحين أو حزينين. لم يمارسوا من قبل مسؤولية وطنية، هؤلاء اللبنانيون... هؤلاء التجار البدائيون الباحثون عن الربح وإن في حطام عيش وتجارب خاصة بهم لا بغيرهم، يرمون بأسطورتهم الذهبية الى سلة المهملات ويحتفلون بأساطير من حديد صدئ يستوردها اسيادهم ويروجونها في سوق الانتخابات النيابية البائسة. الثلثاء 2/6/2009: الماضي نعجز عن قراءة التاريخ إذا كان مقدساً، ونعجز عن تجاوزه إذا كان مدنساً. في قلب التاريخ، حياتنا ذاكرة، ومثلها كتاباتنا والأحلام. الحاضر مناسبة وجودنا لنستحضر الذاكرة. والمستقبل مجرد كلمة ولا تعنينا. الأربعاء 3/6/2009: سليم بركات أكثر شعراء الحداثة العربية عناية باللغة، سليم بركات، الشاعر السوري من اصل كردي الذي اتى بيروت شاباً فعمل قريباً من أدونيس ونزار قباني، ثم نشر قصائده الأولى في مجلة «مواقف» كاشفاً مدىً أهملته الحداثة الشعرية العربية، أعني الريف السوري الشمالي الشرقي المحاذي للعراق وتركيا، حيث آثار حضارات الرها ونصيبين ونخبهما المنشئة أصول الفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط. تلك البلاد التي عرفها سليم بركات الطفل شعّت في كتاباته الشعرية والنثرية الأولى: «كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج ايضاً»، و «هكذا أبعثر موسيسانا» و «للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك»، وكتابا السيرة: «الجندب الحديدي» و «هاته عالياً، هات النفير على آخره». وانحاز بركات في السنوات الأخيرة الى الرواية، كتبها تخييلات طالعة من أساطير شرقية ذات منحى هيليني لم يأبه بها الشرقيون لتظهر نتفاً في كتب هذا المستشرق أو ذاك. وفي شعره ونثره تبدو اللغة هي السيد، ومن خيوطها المناظر والشخوص والأنفاس والأغاني المضغوطة. سليم بركات، من الريف السوري الكردي الى بيروت فإلى قبرص ثم الى السويد. في امكنة الإقامة هذه بقيت إقامته الإبداعية في ريف سوري يغوص باتجاه نبض حضارته الباقي، متجاوزاً طيناً يابساً وتعباً وشجراً قليلاً، لكن غناه يبرز أكثر ما يبرز في كتابات سليم بركات. أحدث نتاجات الشاعر «ترجمة البازلت»، كتاب صدر حديثاً عن دار النهضة العربية في بيروت، ومنه هذا المقطع: «طوروا معاطفهم بأناة. وضعوها جانباً على المقاعد الأزلية. وضعوا قبعاتهم جانباً. وضعوا الرياح، والسهول، والجهات جانباً. وضعوا الكون جانباً على البساط الخيش، الذي تلقّفوا عليه زيتونهم في حصاد الألق اللاذع كخريف. وضعوا الأقدار جانباً، كي يشدّوا بأيد حرة على الأيدي الممتدة إليهم من صدوع المعقول. وضعوا أنفسهم ملبّدة، كخيال الجوز، جانباً، وأفاقوا مقتولين. بيد انهم يستعيدون أنفسهم يقظة، بعد المقتلة، كخيال الجوز، مرفّهين بحدس النقائض. لا يرون بحيرات، بل يسمعون هذر البحيرات، وينتزعون مسامير المراكب بأسنانهم – أسنان التلف المحيي. اعتنقوهم أنتم. أذلّوهم بإطراء الهزل. أسمِعوهم انها الحقائق أُذلّت مذ أجيزت الحقائق. إباءُ مهرّج يردم، الذي احتفرتموه – أنتم، وهم – من خندق الكمال. لن يتحصّنوا بحصن أو نشيد. (...) امنحوهم حصانة البرتقال. سيستعيدون انفسهم يقظة كخيال الكيد، وروغاً لا يثبتُ للفاحص، نطاسيّين بعلوم النطاسيين شمالاً من منابع الكبريت في الفردوس. لهم اللذائذ حكمةً السنونُ. ويستميلون، بالنقصان الساحر، النساء الطُّرُق، النساء البوابات والأقبية، النساء المجابهة، الحلبات المذاهب في تقدير الجسد للمحتمل». الخميس 4/6/2009: الأسلوب فقط يحتاج التاريخ دائماً الى اعادة كتابة لنجدد وعينا بالوقائع المتقادمة، ذلك ان النصوص التاريخية تصبح بالتقادم مستقلة بذاتها كنصوص أكثر مما هي دلالة على الحدث أو رواية له، ما يبقى منها هو الأسلوب الذي يطغى على الحدث ويطبعه بطابعه ولا يدل عليه إلا من قبيل المناسبة. ويتفاقم خطر الكتابات التاريخية العربية القديمة حين نعتبرها حقائق ولا نتنبه الى هيمنة حضورها الأسلوبي، يتفاقم خطرها إذ يحاول قراؤها (الذين يصدقونها الى حد التقديس) استخدامها للدلالة على الحاضر من خلال الماضي، فتحمل إلينا دماً قديماً تجدده في الدم الحاضر، لنستبدل اسماء المجرمين والقتلى القدماء، الأبطال والضحايا، بأسماء جديدة. إنه الماضي يأتينا مسلحاً ليقتلنا من دون ذنب، سوى ذنب الهوية/ لعنتها. الجمعة 5/6/2009: ذكرى الذكرى الثانية والأربعون لهزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967. زعيم الهزيمة جمال عبدالناصر لم يلمه سوى نخبة قليلة ولم يحاكمه أحد إنما قامت تظاهرات مليونية طالبته بالتراجع عن الاستقالة والعودة الى تسلم القيادة. زعيم انتصار تشرين الأول (اكتوبر) 1973 أنور السادات، قتل على منصة احتفالية في القاهرة لأنه أراد إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي بالصلح. الناس عندنا يحبون من يحمل إليهم الخسارة... تراجيديا عاطفية... نحن بلا عقل، لا نحاسب أحداً فنكافئه أو نعاقبه.