ليست المرّة الأولى التي تقود مصادفة إلى اختراق علمي، لكن نتائجها هذه المرّة فاقت حتى مخيلات من كانوا يشتغلون عليها. وبعد تسعة عقود من اكتشاف البنسلين على خبز في مختبر ألكسندر فليمينغ، فجّرت مجموعة من خلايا المنشأ (تسمّى أيضاً خلايا جذعيّة) في طبق مختبر لعالِم صيني في جامعة ميتشيغن الأميركيّة، مفاجأة علميّة مذهلة، بل ربما من أهم الاختراقات العلمية في القرن الحادي والعشرين، بأن «اصطنعت» جنيناً فيه. تجمعت تلك الخلايا مصادفة على هيئة كرة صغيرة، لكنها أذهلت العالِم المهندس يو شاو بقدرتها على النمو والتغيّر بأسرع من تقديرات العلماء في شأنها. وصوّرها شاو بمساعدة فريقه المكوّن من خليط مهندسين وعلماء بيولوجيا. وبفضل تقنية التعلّم العميق على محرك البحث «غوغل»، وصلت الصور إلى موقع على الإنترنت اسمه «الجنين البشري الافتراضي»، فتعرّف إليها بوصفها جنيناً قيد النمو! وأظهرت التحاليل المعمّقة أنّه يحوي بعضاً من مكوّنات جنين بشري، لكنه لن يستطيع أن يصل في نموّه إلى حدّ الاكتمال. ولم يحُلْ ذلك الأمر دون إطلاق تسمية «جنين تركيبي» Synthetic Embryo على تلك الكُرَةَ من الخلايا. ولم تكن التجربة التي عمل عليها شاو وفريقه إلا جزءاً من بحوث تمثّل أحد أكثر الحقول تقدّماً في العلوم البيولوجيّة، وهي ترمي إلى استخدام خلايا المنشأ في استيلاد أنسجة وأعضاء تشبه ما لدى البشر، فتصلح أن تكون بديلاً ممّا يتلف منها. وتعرف علميّاً باسم «بحوث الأعضاء الشبيهة». وتحتضن الولاياتالمتحدة وبريطانيا الشطر الأكبر منها. في البداية، كانت تجربة شاو وفريقه ترمي إلى استيلاد شبكات من الأعصاب، تكون شبيهة ببعض ما يوجد في دماغ الإنسان. وتتضح أهمية ذلك الأمر عند تذكّر أن أمراضاً عصبية مستعصية كخرف «آلزهايمر» وشلل «باركنسون» الرعّاش و «التصلب اللويحي المتعدّد» وغيرها، باتت ترمي بظلالها الثقيلة على بحوث العلماء وتجاربهم. وفي سياق تجارب مشابهة، انفلتت بالمصادفة المحض، مجموعة من خلايا المنشأ في أحد أطباق مختبر شاو، لتصنع ما بدا فائق الشبه بجنين. وفي وقت مبكر من السنة، توصّل فريق في جامعة «كامبريدج» إلى استيلاد ما يشبه نسخة عن جنين فأر في عمر 6 أيام في الرحم، عبر عملية تشبه الاستنساخ إلى حدّ بعيد. إذ استخدم نوعين من خلايا المنشأ، أحدهما كبويضة متلقيّة والآخر كحيوان منوي مُلَقّح. ولم تكتمل تلك التجربة أيضاً، لكنها اعتُبِرَت اختراقاً عمليّاً أيضاً. والتقطت الخيط نفسه مجموعة من فرق البحوث، لعل أبرزها تلك التي تنهض بها جامعة روكفلر الأميركيّة، بدعم حكومي سخي. وتميل مجموعة من العلماء إلى اعتبار تلك التجارب تمهيداً لظهور علم جديد عن الأجنّة «التركيبيّة» ربما فتح فصلاً جديداً بين العلم وظواهر الحياة على الأرض. أبعد من ذلك، عمد فريق شاو العلمي إلى التخلّص كليّاً من تلك الخلايا، بل ذوّبت في محاليل قويّة لضمان عدم استغلالها في تجارب أخرى أيّاً كانت. وربما ذكّرت تلك «المفاجأة» بعض الأذهان باستنساخ النعجة «دوللي» التي كانت أول حيوان ثدييّ استُنسِخ من خلايا ناضجة (1996)، فالتخلص من خلايا الجنين «الاصطناعي» يذكّر أيضاً بعملية مماثلة في تحوّطها جرت مع جثة «دوللي» في 2006. وعلى غرار الاستنساخ، أثارت تجربة شاو نقاشاً أخلاقياً حاداً في أوساط المجتمع العلمي العالمي. وصبّت التجربة زيتاً على صراع قيمي وأخلاقي وسياسي يكاد يشرخ المجتمع الأميركي، يبدأ من الإجهاض واستخدام بويضات التلقيح الاصطناعي في تجارب طبيّة، ويمر بالحق في الحياة وقيم الأسرة وأخلاقيات الالتزام الديني الصاعدة أميركيّاً، ولا ينتهي بالاستنساخ.