ما بين الحنين إلى الماضي وروحه المفعمة برائحة السنين، والغنية بعناصر بصرية متآلفة، وموتيفات معمارية أنيقة، تطل جدران الزمن بدفئها ونزقها وعشوائيتها وأناقتها. لحظات ملونة لعناصر قديمة مألوفة استرقها الفوتوغرافي المصري محمد صبحي من عوالم إبداعية بحضور اللون وغيابه، واقتنصها بعدسة كاميرته لتروي حكايات مليئة بالحنين والاشتياق للزمان والمكان والمقاهي العتيقة، وتعب الشوارع وشقاوة الصغار ومواقع الضجيج والفوضى، وذكريات الرمال والبحر والزحمة الممزوجة برائحة اليود، والشوارع العريضة المرصوفة بحجر البازلت، والشرفات الحجرية المزينة بتماثيل وقباب من مختلف العصور، والحارات المسحورة الضيقة المسكونة بالبشر والحكايات والخرافات. إطارات عريضة حكى صبحي في ثناياها نوستالجيا سكندرية رقمية من إحداثيات الزمن وأبعاد الضوء وزوايا التصوير المحسوبة بدقة، وانتزع فيها موادّ وعناصر بصرية مألوفة من سياقها، ليعيد توظيفها مجدداً، فخلق تأثيرات مضللة في أعمالٍ بدت مكتملة، طغى عليها حنينه إلى الماضي المحمل بذكريات وتوجهات وأيديولوجيات من كل الجهات تلاقت وتضادت وتماهت وتلاشت بمرور الأيام وتراكم الخبرات والسنوات والذكريات. 35 لوحة قدمها صبحي في معرضه «نوستالجيا» الذي تستضيفه الإسكندرية، مستعرضاً علاقة الكاميرا بحضورها التكنولوجي الطاغي وتأثر الزمان والمكان بالمشهدين الثقافي والاجتماعي. اللافت بالمعرض صفة التحليل والفهم التي فرضها صبحي على صوره التي عالجها رقمياً ليكرس إحساس الزمن ويركزه في ظروف خاصة تحمل دلالات سكندرية معينة تدفع للتركيز واكتشاف التفاصيل الصغيرة التي نتغاضى عنها أحيانا وسط زحمة التسلسل الزمني. يحتضن صبحي قصاصات المكان وأقاصيص الجدات وحكاياتهن بكل تفاصيلها المعلنة والخفية، ويحتفظ في عقله بكثير من الصور والمشاهدات المتلاحقة التي لا تنتمي في كثير منها إلى الواقع، كما يخزن في ذاكرته أماكن ومشاعر حنين آخذة بالاختفاء جراء تغير أساليب الحياة بين البشر. ودائماً ما يرى الماضي بروح الحاضر والتكنولوجيا، فهو «الماضي الرقمي» على حد قوله. ويضيف: «دائما ما يأخذني الحنين إلى الماضي وقيمه وأخلاقياته، وكلما جرفتني التكنولوجيا بقسوتها وبرودتها تنتابني حالة نوستالجيا متدفقة تعيد إليّ التوازن والدفء. ودائما ما أحاول من خلال تجاربي الفنية جعل اللون العميق التاريخي متسقاً مع المدينة الحديثة المتجددة في عالم يشوبه النمو والتطور بشكل مثير». ويوضح: «أسعى دائماً لاستحضار حركة الماضي وعوالمه وأماكنه وتقاليده وكائناته الكرنفالية التي قد تبدو خرافية إلا أنني أصوغها، فتبدو طاقة متحركة تضفي كثيراً من الحداثة على الكتل والمساحات، أو قد أقوم بالعكس، فأتناول عنصراً شديد العصرنة والبرودة فأعطيه دفقاً من الدفء والماضي واللون، وهذا ما أسعى إليه في معارضي المختلفة». ويقول الفوتوغرافي المصري: «استفدت من هذا التعبير كثيراً من خلال ترجمة ما في داخلي بصور معالجة فنية، واستفدت أيضاً من توصيل الفكرة الشعبية والعادات القديمة والتقاليد العتيقة الموجودة في مجتمعنا إلى العالم الخارجي، وربط ثقافتنا المحصورة على أسس جميلة إلى العالم بشكل أكبر، وقدمت أفكاراً عدة لتغيير المفاهيم الخاطئة المأخوذة عن المجتمع العربي من الجمود والتخلف لأحاكي الجمهور للفن الفوتوغرافي في العالم بطريقتهم». سعى صبحي لإخراج الصورة من جمودها وتحجرها ضمن إطارها وربطها بدفق الحياة النابضة بشكل يبدو كأنه تتابع حدث يجري داخل الصورة بعيداً من خواص الصورة الفوتوغرافية وسكونها. وهذه التجربة دفعت المتلقي إلى البحث عن التعبير الدرامي في اللحظة والزمن وسط هذا الصمت القريب من السكون المحيط بالصورة، كما في صورة الطفل النائم مستلقياً على جانبه وقربه الكتابات التي تستعرض ما سيفعله عندما يستيقظ. تحمل كثير من الصور لقطات لشوارع ومبانٍ قديمة صال الزمن وجال وفعل أعاجيبه بجدرانها وأبوابها. ولإضفاء مسحة من الحداثة، التقط صبحي لقطات ضوئية ل «كَبارٍ (جسور) معدنية» كاملة، وأجزاء منها يسقط عليها الضوء فتنعكس أشعته لتضفي حالة من الحركة والحياة يترك تفسيرها للمشاهد، بما يتوازى مع مخزونه النفسي والبصري وما قد يراه عقله يتوافق أو يختلف عن مشاهداته النمطية. يُذكر أن صبحي نال العديد من الجوائز المحلية والدولية وشهادات التقدير والتكريمات.