أكثر ما يُثير الاهتمام في بورتريهات الفوتوغرافي المصري الراحل سيد الجنزوري، الوميض الحر الذي يظهر جلياً في بذخ عناصر التكوين البصري الذي يغدقه في تشكيل الصورة الفوتوغرافية، رغبة منه في إشعال مساحة الصورة مكانياً وزمانياً. ولا يكتفي الجنزوري بتقطيبات في الوجه، أو ردود فعل جسدية إرادية، أو لاإرادية، بل يعمد إلى سبر الأغوار المجهولة للنفس البشرية والتي تختزل الشخص بعاداته وأفكاره وسقطاته وإرهاصاته في لحظة ضوئية فريدة يقتنصها بعدسته ويحتفظ بها بعيداً من مرور الوقت في نسق فني فريد يعطي تكويناً فكرياً ومذهبياً حياً ينقل الصورة إلى عوالم أكثر إيحاء من تلك العوالم التي تبدو واقعية للغاية وروتينية... 50 بورتريهاً من إبداعات الجنزوري، احتضنها مركز الحرية للإبداع في الإسكندرية في معرض استعادي عنوانه «رواد الفوتوغرافيا المصرية» تكريماً للجنزوري والذي رحل بعد معاناة مع المرض. تظهر الأعمال التي التقطها الجنزوري لرموز الفن التشكيلي المصري وعدد من مشاهير العرب، لحظات فريدة من حياة شخوص بعضهم على قيد الحياة وبعضهم رحل في صمت مع مبدع هذه اللقطات. كان المصور الراحل دائم البحث عن التعبير الدرامي في اللحظة والزمن، وسط الصمت القريب من السكون في عوالم الصورة التقليدية، والذي يتطلب شفافية وكثيراً من المعاناة، ووعياً شاملاً، ومقدرة على اختزال التراكمات البصرية للإيحاء بدفق الحياة في لحظة الاتصال الفريدة التي يمتلك المشاهد حق تفسيرها وتأويلها. استطاعت البورتريهات مخاطبة عيون رواد المعرض وعقولهم لتحوز على إعجابهم وتكون محوراً لنقاشاتهم حول سبل إيجاد اللحظة الأمثل لوضعية الوجه والزاوية الأكثر جمالاً وجاذبية وعمقاً للتعبير عن جوهر الإنسان وعوالمه الداخلية. من الأعمال اللافتة بورتريه للفنان عصمت داوستاشي يظهر فيه بإقباله على الحياة وكأنه يكاد يخترق حدود اللوحة ليجذب المشاهد ويأخذه في عالمه اللوني الكرنفالي المفعم بالحيوية والحياة. كما استرعت نظرة عين بورتريه الفنان صلاح طاهر كثيرين اندهشوا من مدى العمق والجدية والترقب الحذر فيها، والتي عكست جزءاً أصيلاً من شخصيته. ومن الحكايات الطريفة أن الفنان حسين بيكار عندما شاهد الصورة التي التقطها له الجنزوري مطلع عام 1990، فوجئ بأنه أصبح -في الصورة- النجم الوسيم الذي تتسابق شركات السينما علي احتكاره حتى أنه أصيب بنوبة من الغرور. ووصف بيكار هذه الصورة بأنها تحفة رائعة تحكي عن رفاهة حس وذكاء في اقتناص اللحظة المفعمة بأعمق المضامين والتي تحول اللوحة إلى قصيدة من الشعر العربي. يقول التشكيلي فاروق شحاتة: «لا يلخص أي معرض استعادي لفنان ما حياته الفنية والشخصية فحسب، بل يلخص حقبة من الزمن، وربما عصراً كاملاً، عاش فيه الفنان وانفعل، تفاعل واستقى، سكب رذاذه وألوانه والذي امتزج وانصهر مع مذاق تلك الحقبة وذلك العصر ورائحتهما». ويضيف: «ومعرض الراحل يظهر فيه أبعاد العصر الذي عاش فيه مستظهراً لحظات معينة لاحتفال العين بانعكاس الضوء على الأشياء وانعكاس رؤيته على المرئي الذي ستحيله الصورة إلى وجود جديد، غير أن هذا الوجود لا يصبح مكتملاً إلا لحظة التحالف مع عين الرائي الآخر ألا وهو المتفرج». ويرى شحاتة أن فتنة الضوء هو القاسم المشترك الذي جمع بين وجوه الجنزوري، «ففي الصورة قد يتماهى الدال والمدلول، وحيث يمكن أن يتخلّق معنى الصورة بين الشيء ومظهره، ومن هنا ينبع الهاجس حول الدور الصعب الذي يلعبه المصور مقارنة مع الفنان التشكيلي الذي يمتلك حرية أوسع لرسم اللوحة، وهو ما استطاع الجنزوري تحقيقه على مدى مسيرته الفنية الطويلة». كان الجنزوري رئيساً لرابطة المصورين المحترفين، وعضو الجمعية العالمية لمصوري الزفاف والبورتريه للمحترفين في الولاياتالمتحدة. شارك في كثير من المعارض المحلية والدولية، وحصل على جوائز دولية في تركيا واليابان وأميركا والأردن وبولندا والنمسا والمجر وفرنسا.