كان الفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي يوم 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 أول محاولة من الكرملين للتمرد على القطبية الأحادية للعالم التي مارسها البيت الأبيض منذ نهاية الحرب الباردة عام 1989: كان الموضوع سورياً في نيويورك ولكن بيكار الرسالة الروسية كان عالمياً. كانت القراءة الروسية لما يجري عبر «الربيع العربي» أن الولاياتالمتحدة تحاول عبر التحالف مع (الإسلاميين الأصوليين الإخوانيين)، بزعامة رجب طيب أردوغان، هو الوصول إلى تفكيك الاتحاد الروسي في فصل ثانٍ بدأ أوله مع تفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1991. كان تقدير موسكو أن استخدام مسلمي الاتحاد الروسي سيكون الوسيلة إلى تحقيق ذلك الهدف وهذا يمكن أن يتم إثر وصول «الإخوان المسلمون» إلى السلطة في العواصم العربية الرئيسية، وكان واضحاً في خريف 2011 أنهم على وشك تحقيق ذلك في القاهرة التي منذ عام 1919 تلحقها دمشق في كل مراحلها سواء ليبرالية سعد زغلول أو النظام القومي العسكري لعبدالناصر أو الموجة الإسلامية التي بدأت مع الإسلاميين المصريين أواسط السبعينات. في شباط (فبراير) 2012 قال سياسي سوري، هو من أكثر المقربين لموسكو ابناً عن أب وعن والد الزوجة، إن «الموجة الإسلامية ستتكسر في الشام»، في حديث مع كاتب هذه السطور. بكلام واضح كان أنه ليس شخصياً، وفي نيسان (أبريل) 2012 قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أثناء لقاء في موسكو مع وفد من «هيئة التنسيق»، بأن روسيا «تدافع عن موسكو في دمشق». كان انتهاء تحالف باراك أوباما مع «الإخوان المسلمين» إثر مقتل السفير الأميركي في ليبيا في بنغازي يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2012 مدخلاً إلى نزع الملف السوري من يدي الأتراك ولبدء تعاون أميركي- روسي في سورية بدأ في اتفاق كيري- لافروف بموسكو حول سورية يوم 7 أيار (مايو) 2013 ثم كانت محطته الأكبر في اتفاقهما يوم 14 أيلول 2013 حول الكيماوي السوري الذي قاد بعد أسبوعين إلى القرار الدولي 2118 الذي تبنى «بيان جنيف1» بأكمله ثم قاد إلى «مؤتمر جنيف 2». كان الفصل الأوكراني في شباط (فبراير) 2014 مؤدياً إلى انهيار «جنيف 2» بفعل روسي رداً على إسقاط الشارع الأوكراني بدعم أميركي لرئيس منتخب موالٍ للكرملين. كان اقتراب الإسلاميين السوريين من إحداث تغيير كبير في ميزان القوى العسكري لمصلحتهم انطلاقاً مما جرى في محافظة إدلب ومنطقة الغاب في ربيع وصيف 2015، ثم ما قام به زهران علوش قائد «جيش الإسلام» من قطع طريق دمشق- حمص الدولي في أيلول، مؤدياً إلى اقتناع عند البيت الأبيض بأن هناك أوضاعاً سورية ستقود إلى تغيير دراماتيكي لمصلحة الإسلاميين في الشام شبيه بما جرى في العراق إثر سقوط الموصل بيد «داعش» يوم 10 حزيران (يونيو) 2014، وبأن هذا سيقود إلى أوضاع لا يمكن التحكم فيها ستكون لها تأثيرات كبرى تتجاوز المنطقة لتصل إلى مجمل الوضع العالمي. قاد هذا إلى تقارب أميركي- روسي حول دمشق بعد تباعد بسبب كييف كان مظهره هو الموافقة الأميركية الضمنية على الوجود العسكري الروسي في سورية بدءاً من يوم 30 أيلول 2015. كانت كبرى علامات الموافقة الأميركية على الوجود العسكري الروسي في سورية ليس فقط أن أوباما لم يضع صواريخ «ستينغر» بوجه فلاديمير بوتين، كما فعل كارتر وريغان بوجه بريجنيف بعد غزوه العسكري لأفغانستان في 27 كانون الأول (ديسمبر) 1979، بل أنه اتجه إلى التوافق معه حول معالم الحل السوري في محطات لقاءي فيينا 1 و2 والقرار الدولي 2254 الذي قاد إلى «جنيف 3» في الشهر الأول من العام 2016. في المجمل هناك وضع لبوتين في سورية ما بعد 30 أيلول 2015 ليس بعيداً كثيراً تجاه أوباما عما كانه نيكولا ساركوزي تجاه الأخير عام 2011 في عملية حلف الأطلسي في ليبيا التي قال عنها أوباما إنه «كانت هناك قيادة أميركية من الخلف». وضع بوتين هنا ليس مثل وضعه عام 2011 وهو يمارس الفيتو في مجلس الأمن ويعلن التمرد على البيت الأبيض وأحاديته القطبية للعالم. ليس وضعه مثل وضع ستالين عام 1947 بوجه الرئيس الأميركي هاري ترومان عند بداية الحرب الباردة، بل روسيا أضعف بكثير لأن الذي يحدد الدولة العظمى ليس السلاح النووي بل القوة الاقتصادية، وهذا ليس متوافراً لروسيا التي هي وراء دول مثل البرازيل وايطاليا في السلم الاقتصادي العالمي. لهذا لجأ بوتين إلى الصين والهند والبرازيل عام 2009 عبر إنشاء مجموعة دول البريكس والتي وضعت هدفاً رئيسياً لها وهو «عالم متعدد الأقطاب». كان لافتاً أن فيتو 4 تشرين الأول 2011 كان مزدوجاً، روسياً- صينياً، لكن ما فعله أوباما مع الكرملين منذ 7 أيار (مايو) 2013 تجاه سورية كان أقرب إلى الاحتواء الأميركي لروسيا لإبعادها عن بكين، وأيضاً عن طهران، من خلال «المكافأة السورية»، فيما أصبح مؤكداً أن البيت الأبيض ينظر إلى الصين في القرن الحادي والعشرين بمثل ما كان ينظر إلى الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي «كخطر رئيسي». والأكيد أن بوتين يبحث من خلال سورية عن تقوية وضع روسيا وليس عن تمرد روسي على الأحادية القطبية الأميركية للعالم وهو منذ 30 أيلول 2015 تحت السقف الأميركي في سورية، وهو رغم استمرار خلافاته مع واشنطن حول أوكرانيا والدرع الصاروخية ما زال في حالة توافق معها مستمر لسنتين حول سورية. من الواضح أن سورية ليست مهمة للولايات المتحدة، كمصر والعراق والسعودية، وهي على ما يبدو لا تمانع أن تكون سورية مجالاً جغرافياً للنفوذ الروسي وفي أن تكون موسكو هي المهندس الرئيسي للحل السوري ولسورية المستقبلية، مع استخدامات موضعية أميركية في سورية للأكراد من أجل إضعاف تركيا، وهو الدلالة الوحيدة للتفضيل الأميركي لميليشيات - هي امتداد سوري لحزب متمرد على أنقرة - على جيش تركي هو عضو في حلف الأطلسي في محاربة «داعش» الذي كان دريئة للجميع من أجل بناء وتحقيق أهدافهم الخاصة، ولكي يكون للأميركيين «مسمار جحا» في سورية المستقبلية. وقد ساهم التباعد الأميركي- التركي في اقناع أنقرة بالتقارب مع روسيا وفي انزياح تركي تدريجي عن الأجندات السابقة السورية لأردوغان. على الأرجح أن سورية ستكون ميداناً لإقناع روسيا بالحل الأميركي لأوكرانيا وطريقاً لإبعاد موسكو عن بكين مثلما كان التباعد الهندي- الصيني الناتج من تقاربات واشنطن ونيودلهي وسيلة مع ما يجري في دمشق لفرط البريكس في وقت يجري احتواء أميركي للبرازيل بعد إبعاد اليسار عن الحكم. على صعيد التعامل الروسي مع الداخل السوري: من خلال مؤشرات كثيرة كان واضحاً أن موسكو ما بعد 30 أيلول 2015 تحاول التملص من بيان جنيف1 عبر التذرع بالأوضاع المستجدة على الأرض، ولكن توافقها مع الأميركيين يجعلها مستمرة في الالتزام بهذا البيان الذي لم يكن ناتجاً من توازنات محلية بل دولية- إقليمية إذ لم يكن هناك أي سوري حاضراً في الاجتماع الدولي- الإقليمي الذي أصدره يوم 30 حزيران 2012 ولا في فيينا 1 و2. حصلت محاولات لم تنجح بذلتها موسكو من أجل إبدال جنيف عبر الآستانة. وحاولت موسكو تصنيع معارضة عبر «حميميم»، لكنها لم تفلح واستطاعت النجاح في فرض موالين لها من منصة موسكو كجزء من خريطة المعارضة بالتوازي مع منصتي الرياضوالقاهرة. تستطيع موسكو القول إن لها نفوذاً عند السلطة والمعارضة، وهذا لا يتوافر عند العواصم الأخرى المنخرطة في الأزمة السورية. وقد ازدادت الفاعلية الروسية في الأزمة السورية بعد تقاربات الكرملين مع تركيا والسعودية. ويظل الكرملين أقرب إلى السلطة السورية من قربه من أطروحات المعارضة، لكن توافقاته مع واشنطن ومع الاتحاد الأوروبي ومع أنقرةوالرياض تجعله مضطراً لأن يكون أقرب إلى الموقف الوسطي المتوازن في طبخ معايير الطبخة التسووية السورية، كما أن إدراكه أن الانتصار الأمني- العسكري لا يمكن أن يترجم ميكانيكياً على طاولة المفاوضات، وأن الحل السياسي مثل رقصة التانغو يحتاج إلى اثنين، السلطة والمعارضة بمثلثها الموجود في الهيئة العليا للمفاوضات، أي الائتلاف- هيئة التنسيق- المنظمات المسلحة المعارضة، يجعلانه يميل إلى تطبيق القرار 2254 الذي يقول بالتنفيذ الكامل لبيان جنيف 1. * كاتب سوري