لم تنهزم الولاياتالمتحدة في أي من حروبها، منذ الاستقلال الأميركي عام 1776، سوى في حرب فيتنام (1964-1975). وهي فشلت في غزوتي أفغانستان (2001) والعراق (2003) حين لم تستطع إنجاز ما تحدّث عنه «المحافظون الجدد»، كهدف أميركي معلن للغزوتين، وهو «إعادة بناء الأمم» في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وضمناً «إعادة صوغ منطقة الشرق الأوسط». في باقي الحروب انتصرت واشنطن، وكان آخر انتصاراتها على موسكو في الحرب الباردة (1947- 1989) منهية الثنائية القطبية ومدشنة عصر «القطب الواحد للعالم». عقب الهزيمة الفيتنامية تولى رئاسة أميركا جيمي كارتر وشهد عهده مكاسب سوفياتية في إثيوبيا (1977) وأفغانستان (1978) ونيكاراغوا (1979) وخسارة الأميركيين لإيران (1979). كان ضعف كارتر سبباً في دفع الناخب الأميركي في انتخابات 1980 للإتيان برئيس قوي هو رونالد ريغان الذي أصعده تصلّبه ضد الكرملين إلى البيت الأبيض، ومن هناك قام بالإنتصار على موسكو خلال ثمانينات القرن الماضي. ليس باراك أوباما مثل جيمي كارتر، وليس العراق مثل فيتنام: يملك أوباما برنامجاً واضحاً، يتمثل في «لاحروب أميركية في الخارج»، معتبراً أن القوة الاقتصادية الأميركية المتفوقة عالمياً (17.419.000 تريليون دولار من حجم الناتج الاجمالي العالمي البالغ 77.868.768 تريليون- أرقام البنك الدولي عن عام 2014) تغني عن المغامرات العسكرية الخارجية، وأن الحفاظ على قوة «القطب الواحد للعالم» يمكن تحقيقه عبر الحلفاء الاقليميين لإدارة العالم من «المركز» في واشنطن. استخلص أوباما من تجربتي سلفه في كابول وبغداد أن لاحاجة لإرسال جنود أميركيين للخارج وإدارة بلدان عبر الاحتلال الأميركي، وأن البديل عن الفشل الأميركي هو الاعتماد على منظومة إقليمية جديدة تلبي أكثر المصالح الأميركية. في الشرق الأوسط لم تكتمل هذه المنظومة بعد، ولكن من الواضح أن الطريق إلى بنائها يمر عبر احتواء طهران من خلال اتفاق 14تموز (يوليو) 2015 حول البرنامج النووي الإيراني لضمها إلى منظومة اقليمية حليفة لواشنطن تضم طهرانوأنقرة والرياض وإسلام آباد. كان «داعش» منذ سقوط الموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014 نافذة لتمرير سياسة احتواء طهران أميركياً بعد أن تخلخل وضعها العراقي الذي سلمته واشنطن عملياً لها منذ انتهاء الانسحاب الأميركي العسكري في اليوم الأخير من عام 2011. أيضاً كان «الربيع العربي» نافذة ثانية أميركية للضغط على إيران لاحتوائها. ما يعيق اكتمال هذه المنظومة الأميركية الاقليمية هو التباعدات التركية - السعودية مع واشنطن تجاه الدور الايراني الإقليمي. ويشكّل الملفان السوري والعراقي بالنسبة إلى الرياض وأنقرة منصتين ملائمتين من أجل تقوية أوراقهما وإضعاف وزن طهران الإقليمي، وقد كان يمن ما بعد 26 آذار (مارس) 2015 منصة مساعدة أيضاً على تحقيق ذلك. دخول موسكو المباشر إلى الشرق الأوسط عبر البوابة السورية منذ 30 أيلول 2015 ما كان ليتم لولا اتفاق 14 تموز 2015 في فيينا وإحساسها بخطورة التقاربات الأميركية - الإيرانية، وهي حسبت أن وجودها العسكري المباشر في سورية يمكن أن يمنع أو يخربط تلك المنظومة الشرق الأوسطية الحليفة لواشنطن. لهذا، على الأرجح، فإن هذا الوجود سيقود إلى توتر أميركي كبير تجاه الروس يمكن أن يسعى أوباما بسببه إلى الاستعانة بحلفائه الاقليميين، في أنقرة والرياض، من أجل إفشال محاولات فلاديمير بوتين في سورية التي تهدف عبر دمشق إلى كسر الأحادية القطبية الأميركية للعالم ، كما سعى عبر أوكرانيا 2014 وجورجيا 2008 للقول إن المكونات السوفياتية غير الروسية مازالت ضمن إطار نفوذ الكرملين ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. الوجود الروسي في سورية يتخطى الموضوع السوري. وهذا سيقود إلى مجابهة أميركية - روسية من أجل أن تبين واشنطن لبوتين أنه ليس قادراً أن يكون في وضعية خروتشوف وبريجنيف، ولكن، لن يدخل أوباما، على ما تُظهر مرحلة ما بعد 30 أيلول السورية، في مبارزة مباشرة مع زعيم الكرملين، فهذه المجابهة إن حصلت ستكون فرصة لتقوية الأوراق الإقليمية للرياض وأنقرة عند واشنطن، بعد أن ضعفت أوراقهما في مرحلة التقارب الأميركية - الايرانية، وهو ما دفعهما في عام 2015 إلى التقارب مع موسكو اتقاءً لعواقب التقارب بين واشنطن وطهران. هنا، يراهن أوباما على الضعف الاقتصادي لروسيا (المرتبة العاشرة في ترتيب البنك الدولي عام 2014)، وهو يعرف أن الاقتصاد الضعيف كان سبب هزيمة موسكو في الحرب الباردة حين عجزت لأسباب اقتصادية، وليس تقنية عسكرية، عن مجاراة واشنطن في برنامج حرب النجوم الذي طرحه ريغان عام 1983 والذي كسر من خلاله التعادل النووي بين موسكو وواشنطن الذي استمر منذ لحاق ستالين بترومان عام 1949عبر صنع قنبلة ذرية سوفياتية ثم هيدروجينية عام 1952 لينشأ توازن الرعب عبر امكان احداث (الفناء المتبادل)، وهو ما كان أساساً للثنائية القطبية الأميركية-السوفياتية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. عقب ما جرى في أوكرانيا ما بعد 21 شباط (فبراير) 2014 قام أوباما بإنهاك روسيا اقتصادياً. في أوروبا السوفياتية السابقة يستخدم أوباما منظومة اقليمية هي «الاتحاد الأوروبي» من أجل تطويق موسكو. نجح اوباما في رتق الفتوق التي أحدثها سلفه جورج بوش الابن مع القارة العجوز أثناء صدامه مع باريس وبرلين بسبب عراق 2003، وقد أصبح واضحاً الآن التناغم الأميركي- الأوروبي بما يذكّر بعقدي الأربعينات والخمسينات، قبل أن يأتي ديغول ويحدث شرخاً فرنسياً مع واشنطن تابعه مستشار ألمانيا الغربية ويلي براندت بانفتاحه على برلين الشرقية ووارسو وموسكو الذي اصطدم بسببه مع كيسنجر في السبعينات. في الشرق الأقصى يشتغل باراك أوباما على بناء منظومة اقليمية موالية لواشنطن من أجل تطويق الصين التي هي الرقم الاقتصادي الثاني عالمياً (10.360.105 تريليون- أرقام 2014). الرئيس الأميركي، الذي يرى «الاقتصاد أولاً»، يدفعه تنامي ما يراه خطراً صينياً مهدداً للزعامة الأميركية العالمية من خلال تنامي عملقة بكين الاقتصادية، إلى القبول بحضور عسكري أميركي في الشرق الأقصى، من خلال قاعدة للمارينز في مرفأ داروين في شمال أستراليا، وتجديد القاعدة العسكرية الأميركية في الفيليبين (خليج سوبيك)، وتعزيز قاعدة أوكيناوا الأميركية في اليابان، مع تسهيلات للصيانة أمام السفن الحربية الأميركية في القاعدة البحرية الفييتنامية في خليج كام ران، مع نشر نظام للدفاع الصاروخي الأميركي في كوريا الجنوبية في آذار 2015 ثم توقيع في نيسان (إبريل) 2015 على نظام للدفاع الثنائي أميركي- ياباني نقل طوكيو عملياً من وضعية «اللامحارب» التي كانتها منذ عام 1945. في الشرق الأقصى يدخل أوباما عسكرياً فيما يقوم بالخروج العسكري من الشرق الأوسط. يتقارب مع عسكريي ميانمار ويبعدهم عن الصينيين، ويستثمر استمرار الخلاف الحدودي الصيني- الهندي القائم منذ حرب 1962 من أجل جعل مجموعة دول «البريكس» مشلولة، ومن أجل تكميل تزنير الصين بدول جوار معادية أو متخاصمة مع بكين. لا يكتفي باراك أوباما بذلك بل يقوم، أولاً وأساساً، من أجل مجابهة خطر الصين، بإنشاء منظومة «الشراكة الاقتصادية عبر الباسفيك TPP» (عقدت قمتها في تشرين الثاني- نوفمبر 2014)، والتي تمتد على طول شاطىء الباسيفيك من كندا إلى تشيلي وصولاً إلى الشرق الباسفيكي عند أستراليا ونيوزيلندا واليابان وفييتنام وتايلاند وسنغافورة، مضافاً إليها اتفاقية الشراكة التجارية مع كوريا الجنوبية التي أقرها الكونغرس الأميركي عام 2011. هناك تقاربات أميركية غير مسبوقة مع دول «الاتحاد الافريقي» يحكمها هاجس التمدد الصيني الاقتصادي في القارة السمراء، وليس هناك في عهد أوباما هاجس من الحكومات اليسارية في البرازيل وبوليفيا، ولا من «نظام الممانعة» في فنزويلا، ما دامت المصالح الاقتصادية الأميركية مضمونة هناك. كانت أميركا أول من تعافى من الأزمة المالية - الاقتصادية العالمية التي بدأت في نيويورك عام 2008. الأزمات الاقتصادية، مثل الأوبئة، أول من يتعافى فيها هم الأقوياء. ليست الولاياتالمتحدة الأميركية ضعيفة في عهد أوباما، بل هناك استخلاص لدروس الحرب الباردة حين قرر الاقتصاد مصير حرب عالمية ثالثة عاشها العالم على وقع الصراع بين واشنطن وموسكو، وكانت الحروب بالوكالة تجري بينهما في أكثر من منطقة اقليمية في العالم: حرب فييتنام، حرب 1967، حرب 1973، الحرب الأنغولية 1976- 1991، حروب القرن الإفريقي 1977- 1991، الحرب الكمبودية عقب غزو فييتنام لكمبوديا في الشهر الأول من 1979، والحرب الأفغانية إثر الغزو السوفياتي في الأسبوع الأخير من 1979. استخلص أوباما دروس أخطاء بوش الابن في كابول وبغداد بأنها خروج عن السياق الأميركي للحروب بالوكالة التي انتصرت واشنطن فيها جميعاً، فيما خسرت حين حاربت مباشرة بجنودها في حرب فيتنام. على الأرجح، ليس مطابقاً للواقع قول السيناتور جون ماكين: «باراك أوباما رجل ضعيف ليس على مستوى القوة الأميركية». * كاتب سوري