يضمّن الروائيّ البريطانيّ اليابانيّ الأصل كوزو إيشيغورو روايته «بقايا يوم»، (دار السوسن، دمشق، ترجمة هند بهلول) الكثير من الأحداث التاريخيّة، التي تشكّل أرضيّة الرواية. يعتمد على التاريخ أثناء الحديث الذي يبدو كأنّه خارج عن السياق التاريخيّ. يعود إلى سنوات ما بين الحربين العالميّتين. يصوّر حالات انعدام الثقة بين الدول والحكومات، المتحالفة منها والمتحاربة. يذكّر بالأجواء المتوتّرة التي كانت سائدة في أوروبا قبيل الحرب العالميّة الثانية ويسعى إلى استكشاف المخبوء في الأوضاع التي كانت تسبق أو ترافق عقد اللقاءات التي يتمّ فيها ترسيم الخطط والاتّفاق على السياسات المحتملة. يقدّم إيشيغورو في روايته فصولاً شكّلت منعطفات تاريخيّة عالميّة من وجهة نظر أحد الهامشيّين فيه، وعلى لسان شخص قد لا يلتفت إليه المؤرّخون قطّ، وهو رئيس الخدم في قصر لورد إنكليزيّ فاعل متنفّذ. ولا يعني تقديم التاريخ من منظور شخص مهمّش أنّه يقدم تاريخ المهمّشين، بل نجده يعنى بتقديم الحوادث الكبرى وما سبقها أو لحقها من تداعيات وتأثيرات، وكذلك الإشكاليّات التي كانت تتمّ معالجتها في القصر، تلك التي كانت تشكّل عصب السياسات وتشعل فتيل الحروب في تلك الآونة. تبدأ الرواية بانتقال سلطة القصر إلى سيّد أميركيّ؛ فارادي. يشير بذلك إلى انتقال القوى والسلطة والنفوذ، وإلى ظهور سيّد عالميّ جديد يرسم الخطط وفق مصالحه بناء على إرث سابقيه. يقوم فارادي بشراء القصر الإنكليزيّ العريق، يُبقي السيّد الجديد على بعض الخدم في القصر، تكون معاملته مختلفة عن معاملة السيّد السابق، تحدث تغييرات في القصر، بالنسبة لعدد العاملين فيه، تتوافق مع شخصيّة المالك الجديد وتوجّهاته. وفي أحد الأيّام، يطلب السيّد الأميركيّ من رئيس الخدم ستيفن أن يأخذ إجازة ويخرج في رحلة إلى الريف الإنكليزيّ، كي يروّح عن نفسه قليلاً، لأنّه لاحظ أنّ ستيفن بحاجة إلى مثل تلك النقاهة، ولاسيّما بعد معرفته أنّه متفانٍ في عمله، ولم يأخذ أيّ إجازة طيلة مدّة خدمته الطويلة. يروي ما يشبه السيرة الشخصيّة لرئيس الخدم، يوردها في سياق السيرة المكانيّة الزمانيّة المتشابكة المتداخلة، حيث لا تنفصل سيرته عن سيرة القصر، ولا عمّا كان يجري في القصر، وهكذا يقوم البطل الرئيسيّ في الرواية، ستيفن، الذي يكون رئيس الخدم في قصر إنكليزيّ عريق هو قصر دارلنغتون، بحكاية مذكّراته التي لا تنفصل عن تاريخ القصر. يقرّر، بعد نصيحة سيّده الجديد، الخروج بجولة يروّح فيها عن نفسه بعد سنوات العمل المرهقة، ينوي زيارة صديقته القديمة كينتون، التي كانت مدبِّرة في القصر، والتي تزوّجت من أحدهم بعدما باءت محاولاتها المتكرّرة بالتقرّب من ستيفن بالفشل، لأنّه كان يصدّ أيَّ محاولة، ويتذرّع بما لديه من أعمال متراكمة، ويتوارى خلف ذرائع العمل، في حين أنّه كان يخفي مشاعره نحوها، لأنّه كان يعدّ ذلك نوعاً من الاستغلال المذموم، ولأنّ أخلاقيّات عمله وكرامته لم تكن تسمح له بتجاوز حدوده، وتحويل مقرّ العمل إلى ملعب للأهواء الشخصيّة، ما كان سيؤثّر على حسن سير العمل. أثناء جولته السياحيّة التي يخرج فيها من قوقعته، يرتدي ستيفن بدلة من البدلات التي كان سيّده السابق قد أعطاه إيّاها، ويأخذ معه سيّارة سيّده ، يتعرّف إلى مناطق لم يسبق له أن زارها، يتعرّف إلى أناس رائعين، يندم على إضاعته العمر من دون أن ينتهز فرصاً كثيرة للتمتّع بالحياة ومباهجها. تتحوّل رحلته الجسديّة إلى رحلة في الذاكرة والذكريات، يغوص في ذكرياته، يتذكّر أنّه كان شاهداً على كلّ ما يجري في القصر من مؤتمرات، يطّلع على خبايا الدسائس والمؤامرات التي تحاك، كما أنّه يكون السبّاق لاستطلاع النيّات المبيَّتة ومعرفتها، يطّلع أوّلاً بأوّل على كلّ ما يدبَّر للمملكة والقارة الأوروبيّة والعالم، لأنّ صاحب القصر، اللورد دارلنغتون أحد الفاعلين في الحقل السياسيّ، يسعى من جهته إلى المساهمة في التخفيف من حدّة التوتّر في القارة، كما يسعى إلى التقريب بين وجهات النظر المتباينة. يظنّ رئيس الخدم ستيفن أنّه يقوم بدور مهم جدّاً لا يقلّ أهمية عن دور سيّده، لأنّه يؤمّن للمؤتمرين والمتباحثين والضيوف الراحة والأمان، يلبّي جميع مَطالبهم من دون أيّ استياء أو تذمّر، يظنّ أنّه يخدم البشريّة جمعاء بعمله ذاك، لأنّه يساعد في التخفيف من حدّة التوتّر الذي يسود الأجواء المصاحبة للمفاوضات والنقاشات المحتدمة، كما أنّه يستعين، من باب التوثيق والتأكيد، بشخصيّات تاريخيّة عاصرها وخدمها، كتشرشل، جورج برنارد شو، إضافة إلى بعض الوزراء والقادة واللوردات. كما يستذكر القصر أيّام شهرته، حين كان يستقبل أشهر سياسيّي العالم وأكثرهم نفوذاً. تستغرق رحلته أيّاماً، تصادفه مفارقات، أحياناً يلتبس مظهره على البعض، يظنّونه سيّداً كبيراً، يعاملونه معاملة السادة، ولا يفسحون له المجال كي يفصح عن شخصيّته الحقيقيّة، وأحياناً أخرى يجد نفسه داخلاً في زحام محمود، لأنّه ينسيه بعض أساه، يُساويه بغيره، من دون سيادة أو تبعيّة. يلتقي بالمرأة التي ظلّت هاجسَه الدائم، يجدها تغيّرت بفعل الزمن، يستفسر منها عن أمورها، يجدها مرتاحةً، عكس ما كان يخمّن، تبوح له كينتون بما كانت تكنّه له من محبّة، وأنّها أقدمت على الزواج كي تستثير غيرته وتدفعه إلى التقدّم إليها أو مفاتحتها بالموضوع، لكنّه كان يتعامى عن كلّ شيء، ويتفانى في عمله. توصله إلى المحطّة، تغدو تلك المحطّةَ الأخيرة بالنسبة لكليهما، يبقى في اليوم متّسَع للتجوّل، يحاول ستيفن أن يستغلّ الوقت المتبقّي باستكشاف الوجوه وما يحتجب خلفها، لكنّ الماضي يبقى أقوى منه، ويستجرّه إلى شعابه، يقيّده بذكرياته وأوهامه. لا يتنازل ستيفن عن آرائه وقناعاته في أنّه كان يؤدّي واجبات عظيمة للإنسانيّة، حين كان يمتثل لأوامر سيّده، وكان يلبّي مطالبه ومطالب ضيوفه، كي يبقي أمزجتهم رائقة، ليساهموا في التخطيط لخير الإنسانيّة. يتذكّر كيف أنّه كان يكبر بأدائه دوره في ظلّ الأحداث الجسام التي سنحت له فرصة الظهور والإبداع والتصنيف كرئيس خدم مميّز يتحلّى بالكرامة والتفرّد. يعتقد أنّه خدم بلاده، لأنّه لعب دوراً لا يقلّ عن دور القادة، لأنّه يعتقد أنّه امتياز كبير لأيّ إنسان أن يحصل على دور يلعبه على خشبة المسرح مهما كان صغيراً. ولا يشترط حجم الدور بل يشترط البراعة في تأديته. ولا يتخلّى عن واجباته كرئيس خدم، ويوضّحها قائلاً إنّ واجب رئيس الخدم هو تقديم الخدمات الممتازة أثناء القيام بواجباته، عليه ألاّ يتدخّل في شؤون الأمّة التي لا تعنيه، الشؤون الإستراتيجيّة يجب أن تكون دائماً من اختصاص السياسيّين الذين يمتلكون القدرة على اتّخاذ القرارات الصائبة أكثر منّا، أفضل ما يقوم به للمشاركة الفعّالة هو الحرص على خلق الظروف المثاليّة لأولئك السادة، يجب توفير الراحة الكاملة لهم لكي يتفرّغوا بكامل طاقتهم للعمل، ويمنع التدخّل في أمورهم، لأنّه يرى أنّ لكلّ إنسان مهمّة في المجتمع يقوم بها، وأنّ بخدمته أولئك السادة الذين يملكون بين أيديهم مفاتيح حلّ المشكلات يكون قد خدم الأمّة. ولا يوافق الاعتقاد الذي ساد فترة من الزمن بين أوساط رؤساء الخدم، أنّ من حقّهم التدخّل في القضايا التي يعاصرونها، أو تجاوز حدودهم مع سادتهم. «بقايا يوم»، مأساة شخصيّة بحلّةِ ملهاةٍ جماعيّة حول عادات تتطوّر إلى دراسة عميقة للشخصيّة والطبقة والثقافة، تصوير لحياة رجل يحاول استرداد ما تاه منه في زحمة المزاعم المضلِّلة والشعارات الحاجبة، يحاول انتهاز الفرصة السانحة له بالاستفادة ممّا تبقّى له من وقت عساه يعوِّض بعضاً ممّا فاته. وعلى هذا، تكون بقايا يوم، بقايا عمر لم يتبقَّ منه إلاّ القليل الذي لن يفي بالغرض. وذاك اليوم المفترَض ليس إلاّ العمر المبدَّد نفسه. إيشيغورو ولد في 8 نوفمبر 1954 في مدينة ناغازاكي، انتقلت عائلته إلى إنكلترا سنة 1960، حصل على ماجستير في الكتابة الإبداعية في 1982، أصبح مواطناً بريطانياً في 1982. فاز بعدّة جوائز عن رواياته، منها جائزة البوكر عن «بقايا يوم».