تحظى التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط باهتمام الشبكات التلفزيونية العالمية التي تغطي يومياً مجريات الأحداث على طريقتها الخاصة، مكثفة وغنية بالتحليل والتوثيق، لتعطي لمشاهديها صورة واضحة عن الحدث الآني وارتباطه بجزء من العالم ليس موضع اهتماماتهم المباشرة، ولهذا تساعد الصورة المنقولة يومياً، بإيجاز، في تقريب الحدث، وتساهم الوثيقة وبقية البرامج ذات الصلة في فهم تداعياته على مستويات أبعد. التلفزيون السويدي نموذج لهذا التوجه الإخباري، إذ غطى مراسلوه ما جرى في تونس ومصر، ويركز اليوم على ليبيا بأسلوب العمل ذاك. فخلال الأيام القليلة الماضية، قدم مجموعة برامج عن ليبيا، منها ما هو قديم وآخر جديد. على المستوى الأول أعاد بث مقابلة أجرتها الصحافية السويدية ستينا داربوفيسكي مع القذافي عام 1990 ضمن برنامج خاص على صفحته الإلكترونية بعنوان «أرشيف مفتوح». في اللقاء ظهر القذافي هادئاً مبتسماً طيلة الوقت، ما دفع داربوفيسكي لسؤاله عن السبب في ظهوره مختلفاً عن صورة الخطيب المنفعل والمتحمس أمام جماهيره، فكان جوابه: «لكل مقام مقال». وكانت هذه الجملة كافية لدفع الصحافية للتشديد على معرفة طريقة تفكير القذافي وأسلوب تعامله مع كل طرف وفق مصالحه الخاصة، على غير ما يحرص على إظهاره في العلن، كقائد «ثوري» مندفع بخط ايديولوجي ثابت. كان هذا قبل أكثر من عشرين عاماً، أما الريبورتاج الفرنسي الجديد «القذافي: أفضل أعدائنا» فقدم لمتابعي التلفزيون السويدي صورة أعمق للرجل الذي حكم ليبيا بوجهين: الأول معاد للغرب والثاني شريك له، ينفذ ما يطلبه منه ويقدم له كل ما يريده مقابل بقائه في الحكم وبأي ثمن. ويكشف الصحافي أنطوني فيكتين في وثيقته المهمة كيف تحول الضابط الشاب في ثمانينات القرن العشرين من أسوأ أعداء الغرب الى صديق له في نهاية العقد الأول من هذا القرن، وكيف كان مؤيداً وراعياً للحركات الإرهابية، بعد توليه السلطة عام 1969 ثم صار وبعد عشرين عاماً على رأس محاربيها في المنطقة وشريكاً أساسياً مع الغرب ضدها. لقد برهن القذافي وفق الشريط التلفزيوني على قدرته الهائلة على التَلّون من أجل بقائه حاكماً كما قال عنه الصحافي الليبي حسن الأمين: «الشيء المهم بالنسبة الى القذافي هو بقاؤه في السلطة، لأنه لو فقدها سيفقد حياته، بعبارة أخرى سينتهي، ولهذا عمل كل ما في وسعه ليبقى حياً.. ليبقى حاكماً». وحتى بعد الضربة الجوية الأميركية التي وجهت له عام 1986 ظل القذافي حريصاً على مد جسور التقارب مع أعدائه، وأغراهم بالدور الذي يمكن أن يلعبه في محاربة القاعدة في المغرب العربي وتأمين شريان النفط متدفقاً. ويكشف أرنود دي بورشغراف، رئيس تحرير صحيفة «واشنطن تايمز» كيف أن القذافي طلب منه شخصياً، بعد نهاية مقابلة أجراها معه، ترتيب اتصالات له مع جهاز الاستخبارات الأميركية، إذ قال له: «أريد التعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أي) فأنا مهدد من المسلمين المتطرفين وبخاصة في الجهة الشرقية من البلاد، فهل يمكنك توصيل هذه الرسالة لهم؟». ويؤكد مارتين انديك مستشار الرئيس بيل كلينتون هذه الحقيقة من خلال محاولات القذافي المتكررة طرق كل الأبواب لإيجاد نافذة يمكن الدخول منها لطرح كل ما يتعلق بقضية تفجير لوكربي عام 1992 والانتهاء منها. وأغرب ما يكشفه الريبورتاج اختياره آبه سوفير، المستشار الشخصي للرئيس ريغان وأحد المشاركين في التخطيط لعملية الهجوم الجوي ضده في سرت، للقيام بدور الوسيط بينه وبين الرئيس. وعن هذه المهمة يقول سوفير: «ربما اختارني من بين كثيرين ليبعد أي شكوك حول دوري، بخاصة أن الكل يعلم بما قمت به خلال الإعداد للهجوم ضده!». لقد استدعى القذافي الى جانب الخط الديبلوماسي، خط النفط لإغراء الشركات الأميركية للعمل في ليبيا، وكان يلوح لها بحجم التنافس في هذا المضمار. «إذا لم تأتوا وتأخذوا مواقعكم سيأتي آخرون غيركم ويأخذونها». وعن هذا يذكر الديبلوماسي الأميركي هيرمان كوين كيف أن القذافي دعاه سراً الى مقره في طرابلس وعرض عليه خريطة لمواقع آبار نفطية وقال له صراحة: «كل هذه المواقع المؤشر عليها باللون الأحمر لكم، فخذوها». وكانت تلك أهم وأكبر الآبار في ليبيا كما يقول الديبلوماسي. لم يبخل القذافي بالمال لتحسين علاقته بالغرب، لكنه كان يصطدم بمعارضة قوية له على الدوام حتى جاءت اللحظة المناسبة وهاجم فيها تنظيم «القاعدة» الولاياتالمتحدة في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، فاستغل القذافي المناسبة للإعلان عن وقوفه الى جانبه فأرسل إشارات مهمة في هذا الجانب تمثلت في تسليمه ملفات ضخمة للإنكليز عن التنظيم وتحركاته في المنطقة، وبدورهم سلموها الى الولاياتالمتحدة التي أعلنت عن دهشتها، كما قالت وزيرة الخارجية آنذاك كونداليزا رايس، من حجمها ودقتها. واستغلالاً للحظة التاريخية النادرة سارع القذافي أثناء الاستعداد الأميركي لغزو العراق الى إعلان تخليه عن مشروعه النووي، وبهذا سهل على الأميركيين مهمتهم في العراق بخاصة أن الشكوك كانت بدأت تحوم حول امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل. كان إعلان تخلي القذافي عن برنامجه النووي بمثابة تأكيد، غير مباشر، على وجود مثل هذه البرامج في بلدان أخرى مثل العراق وغيره كما قالت الوزيرة حينها، وهكذا تغير الموقف منه وصار القذافي العدو السابق صديقاً للغرب، وحتى حين مزق ميثاق الأممالمتحدة، أثناء حضوره أحد اجتماعاتها، لم يثر حفيظة ديبلوماسييها، لكن دوره المزدوج، ولعبه على الطرفين، كان يسبب لهم حرجاً على الدوام، وظلت مسألة التخلص من «أفضل الأعداء» مسألة وقت ليس إلا، كما قال أنطوني فيكتين في نهاية تحقيقه التلفزيوني: «القذافي عنده النفط ويبيعه لنا، يساعدنا في الحرب على الإرهاب ويشتري بضائعنا، بالمقابل نقدم له الدعم ليبقى في الحكم، ولكن الى متى؟ هذا هو السؤال».