مع بداية الخريف، وبعد عطلة صيفية جاوزت الشهرين، انطلقت في العاصمة الفرنسية النشاطات الفنية الكبيرة وأولها ما يعرف ب «بيينالي باريس» الذي يقام في متحف «القصر الكبير». من أهداف هذه التظاهرة، التي تأسست العام 1959 بمبادرة من شخصيات معروفة منها وزير الثقافة السابق أندريه مالرو، التأكيد على دور باريس كعاصمة عالمية للفن والأناقة والترف. وإذا كان البيينالي في السابق يقام كل عامين، فإنه، منذ هذا العام، صار حدثاً سنوياً تشارك فيه مجموعة مهمة من صالات العرض التي يتجاوز عددها التسعين صالة، إضافة إلى تجار الفن وأصحاب المجموعات الخاصة العتيقة النادرة... يشرف على تنظيم البيينالي متخصصون في تاريخ الفنون وأسواقها من النقابة الوطنية لتجار العتائق وهيئة مكونة من شخصيات من جنسيات مختلفة يترأسها الثري الأميركي كريستوفر فوربز المعروف بتعلقه بالثقافة الفرنسية وباقتنائه لمجموعة كبيرة من التحف الفرنسية التاريخية. من الشخصيات الأميركية الأخرى الداعمة للبيينالي هناك ثري آخر يدعى توم كبلان، وهو من هواة اقتناء أعمال الفنان رامبرندت وغيره من فناني هولندا في القرن السابع عشر، وقد أعار لوحات من مجموعته لمتحف «اللوفر» الشتاء الماضي وخصص لها معرض بأكمله. تتنوع معروضات هذا العام ما بين التحف القديمة والتحف الحديثة، وما يجمع بينها هو ندرتها وكذلك تعبيرها عن مختلف التقنيات والأساليب الفنية من النحت واللوحات الأوروبية القديمة والجديدة إلى التحف الآسيوية، إلى قطع المفروشات والأواني والمجوهرات والأقمشة والمنحوتات الفرعونية والأفريقية والساعات الفخمة التي تطالعنا للمرة الأولى في البيينالي. أما بالنسبة للفنون الإسلامية فنشاهد روائع منها في جناح غاليري Kent Antiques... وتعرض كل «هذه الكنوز» في إطار مشهدي خلاب أعدته ناتالي كرينيير، مهندسة الديكور التي تتمتع بشهرة كبيرة بعد أن أنجزت ديكورات معارض عدة في باريس وغيرها من العواصم العالمية. ما يميز بيينالي هذا العام أيضاً المعرض الذي يقام في سياقه وعنوانه «مجموعة باربيي مولير Barbier Mueller»، وهي مجموعة سويسرية خاصة تحمل اسم مؤسسيها جان بول باربيي (توفي نهاية العام الماضي) وزوجته مونيك مولير. والاثنان اشتهرا عالمياً باقتنائهما للفنون التي كانت تسمى بالفنون «البدائية»، أي الأفريقية والأوقيانية، وفنون القارة الأميركية قبل وفود الأوروبيين إليها. وقد أودعت هذه المجموعة الرائعة في متحف في جنيف عام 1977 وهي تشتمل على آلاف القطع الجميلة والنادرة والتي تحضر باستمرار في المعارض داخل سويسرا وخارجها. ويأتي المعرض المقام حالياً في بيينالي باريس بمثابة تحية وتكريم لهذين الزوجين ولأولادهما الذين تابعوا المسيرة. وبمناسبة المعرض صدر أيضاً كتاب فخم وجميل عن هذه المجموعة المدهشة وهي شهادة عن الدور الذي يمكن أن تؤدّيه المبادرة الفردية في الحفاظ على التراث الفني في العالم. المتتبع لبيينالي باريس منذ سنوات يدرك أن المنظمين هذا العام بذلوا جهوداً كبيرة لتجديد روح هذه التظاهرة الفنية الكبيرة خصوصاً أن سوق الفن العالمية شهدت تحولات كثيرة في العقود الأخيرة تجسدت في ظهور أسواق فنية جديدة في الشرق الأوسط وبعض الدول الآسيوية. لكن تقتضي الإشارة إلى أنّ الولاياتالمتحدة الأميركية ما زالت أكبر سوق فنية في العالم. من هنا سعي إدارة البيينالي إلى استقطاب شخصيات من خارج فرنسا لدعم سمعة البيينالي في العالم ودفع المستثمرين الأميركيين وغيرهم إلى زيارة العاصمة الفرنسية والاطلاع على ما تحتويه صالات العرض من كنوز فنية. ومن المؤكد أنّ الذائقة الفنية ليست واحدة عبر العصور، وهذا ما يمثّل أحد الأسباب التي تفسر صعود أسعار الأعمال الفنية وهبوطها. من هنا فإن مقتني الأعمال الفنية والعتائق يبحثون عن الأعمال النادرة، ذات القيمة الأكيدة، مهما تحولت الأزمنة وتغيّرت الأذواق، ومنها على سبيل المثال لوحات الفنانين الانطباعيين ورواد الحداثة الغربية مطلع القرن العشرين وكذلك قطع الأثاث المنجزة في زمن كبار ملوك فرنسا.