بخفوت، مرّ «اليوم العالمي للسرطان» أخيراً على الدول العربية. ربما ضاع صوته في خضم التحوّلات الضخمة التي تشهدها المنطقة، فكأن الشفاء من سرطان الاستبداد في السياسة أكثر أهمية من علاج الأورام الخبيثة في الأجساد. ربما كانت العلاقة بينهما أكثر عمقاً مما يبدو، وهذا شأن يحتاج الى نقاش طويل. وأياً كان الأمر، فقد انتهزت «منظمة الصحة العالمية» تلك المناسبة للتذكير بأن السرطان من أهمّ أسباب الوفاة عالمياً، متوقّعة أن يصل عدد وفياته إلى 12 مليوناً في 2030. كما ذكّرت هذه المنظمة بإمكان الوقاية من قرابة 40 في المئة من إصابات هذه الأورام القاتلة، عبر اتّباع أنماط صحية في العيش اليومي. تعاون بين دول شرق المتوسط في الأردن، يرتبط ذكر الأورام الخبيثة بالأيدي التي تكافحها في غير مؤسسة، خصوصاً «مركز الحسين للسرطان». والمعلوم أن هذا المركز تأسّس في عام 1997. ويتفرّد بتخصّصه في علاج السرطان أردنياً. واعتمدته «منظمة الصحة العالمية» ليكون مركزاً إقليمياً للتعاون بين دول شرق المتوسط (23 دولة)، في السنوات الأربع المقبلة. ويشمل هذا الاعتماد أن ينهض المركز إقليمياً بمهمات التدريب والتعليم المتصل بالرعاية التلطيفية ومعالجة الألم، للمصابين بالسرطان، إضافة الى اهتمامه بتسجيل الإصابات بالأورام الخبيثة، والكشف المبكر عنها، وتبادل الخبرات بين دول الإقليم. ويوفر المركز برامج تؤهل الأطباء لنيل درجة الزمالة في السرطان وجراحاته، وعلوم الأورام الخبيثة، وسرطان الأطفال وغيرها. وكذلك يمتلك المركز برامج لتدريب الطاقم التمريضي على الرعاية الشاملة لمرضى السرطان. وفي لقاء مع «الحياة»، أوضح الدكتور محمود سرحان، مدير عام المركز، أن هذه المؤسسة تعالج ما يزيد على 3500 مريض جديد سنوياً، وتستقبل ما يربو على مئة ألف زيارة سنوياً، كما قدّر الحالات التي تتلقى العلاج حاضراً بقرابة العشرة آلاف. وبيّن أن طواقم المركز تزيد على 1700 موظف، جلّهم من الأردنيين، كما تضمّ صفوفهم أكثر من مئة مختص في علاج السرطان، إضافة إلى فريق من 518 ممرضة وممرضاً جرى تدريبهم على الرعاية المختصة لمرضى الأورام الخبيثة. وأعلن سرحان أن المركز يلتزم تقديم التعليم المستمر لفرقه الطبية والصحية، وأنه يسعى لأن يكون مركزاً ريادياً في المنطقة. وقال: «لدينا رغبة في توفير فرق طبية مختصة في علاج أنواع السرطان، كأن يختصّ فريق في معالجة سرطان الثدي، وآخر في أورام الجهاز الهضمي، وثالث في سرطان الدماغ وغيره، إذ يؤدي هذا إلى تراكم الخبرات لدى المختصين. فمثلاً، يتكوّن كل فريق طبي متكامل من جراحين ومختصين في العلاج الكيماوي، والأشعة العلاجية، والأشعة التشخيصية وغيرها. وأشار سرحان إلى أن «مركز الحسين للسرطان» يعتمد مفهوم «العناية الشاملة» Comprehensive Care في تعامله مع مصابي السرطان، بمعنى التكامل بين العلاج الطبي المتنوّع، والطب النفسي، والخدمات الاجتماعية والبيئية والروحانية، وبرامج التغذية وغيرها. وذكّر سرحان بأن هذا المركز أدخل إلى الشرق الأوسط مفهوم العيادات الشمولية المتعددة الاختصاصات، اذ تركّز كل عيادة على نوع مُحدّد من الأورام الخبيثة، ينهض فريقها بعلاجه عبر خطة متكاملة تُوضع بعد نقاش بين أعضاء الفريق، ثم بين الفريق ككل والمريض نفسه. وأوضح سرحان أيضاً أن المركز استحدث وحدة عناية منزلية تعمل على تخفيف الألم عند مريض السرطان، كما تتعامل مع الأعراض الأخرى التي يعانيها. وفي السياق عينه، استُحدِث قسم «الرعاية التلطيفية» Palliative Care في المركز، ليتعامل مع المرضى في المراحل النهائية من السرطان ممن يصعب علاجهم خارج المركز. وتُعنى الرعاية التلطيفية بالجوانب الطبية والنفسية والاجتماعية والروحانية للمريض، ما يضمن أن يقضي المريض أيامه الأخيرة بسلام وكرامة في أحضان عائلته ومحبيه. ونبّه سرحان إلى أن المركز ينهض ببرامج طبية أخرى استكمالاً لمقاربته العلمية الحديثة، مثل برامج زراعة نخاع العظم، خلايا المنشأ Stem Cells، عيادة الألم للأطفال، التأهيل الطبيعي، الطب النفسي، مجموعات الناجين من الورم الخبيث، الترفيه عن المرضى ودعمهم مادياً، والعودة إلى المدرسة وغيرها. وأعرب سرحان عن الفخر بقدرة المركز على التعامل علمياً مع تقنيات متقدّمة مثل استعمال خلايا المنشأ في علاج السرطان. وأشار إلى أن برنامج زرع نخاع العظم انطلق في 2003. وأجرى 650 عملية زرع، استخدمت فيها أنسجة من أقارب المريض، أو من الحبل السري لعائلة المريض. وبيّن أن هذه العمليات نجحت في 67 في المئة من الحالات، ما يوازي النسب العالمية في هذه الزراعات. يد التعاون الدولي في السياق عينه، بيّن سرحان أن المركز يتعاون مع أفضل مراكز معالجة السرطان، مثل مستشفى «سانت جود لبحوث سرطانات الأطفال» في ولاية «ممفيس»، ومركز «لومباردي» في جامعة «جورج تاون» الأميركية، ومركز «إم. دي. إندرسون للسرطان» في جامعة «تكساس»، وكذلك مركز «موفيت للأورام الخبيثة» في الولاياتالمتحدة وغيرها. وتناول سرحان مسألة تمويل «مركز الحسين للسرطان» موضحاً أنه يأتي من المرضى الذين تشملهم برامج التأمين في وزارة الصحة، إضافة الى من يعالجون على نفقة الملك عبدالله الثاني، لأنهم غير مشمولين بالتأمين. ويضاف إلى هاتين الفئتين، المرضى الذين يفدون من بعض الدول العربية، ويتلقون العلاج على حسابهم. وكشف سرحان أن قرابة 20 في المئة من مرضى المركز يأتون من العراق وفلسطين وليببيا واليمن ودول الخليج العربي. وتحدّث الدكتور فراس هواري مدير «مكتب مكافحة السرطان» في المركز عن الدور الذي يؤديه المركز في تبني الجهود الوطنية لمكافحة الأورام الخبيثة والوقاية منها. وأشار إلى تنفيذ هذا المكتب برامج ونشاطات مثبتة علمياً في مجال الوقاية من السرطان. وأوضح أن السنوات الأولى من عمل المكتب ستُركّز على نشر الممارسات السليمة صحياً مثل التغذية المتوازنة والرياضة المنتظمة والابتعاد عن التدخين، وكذلك التوعية بعوامل الخطورة المتصلة بالسرطان، وطُرُق تجنّبها، إضافة إلى إجراء بحوث علمية عن جهود مكافحة السرطان محلياً وعالمياً. وأوضح هواري ان عمل «مكتب مكافحة السرطان» يستند أيضاً إلى تحليل دقيق لعبء السرطان في الأردن، إضافة إلى آلية واضحة للمتابعة والتقويم. وأشار إلى أن السجل الوطني لهذا المرض في عام 2008 أظهر أن الأورام الخبيثة الأكثر شيوعاً هي التي تصيب الثدي (19 في المئة) والقولون والمستقيم (12 في المئة) والرئة (8 في المئة). وشدّد هواري على أن ثلث الأورام الخبيثة تتصل بالتدخين، مثل سرطان الرئة والحنجرة والمثانة، مُشيراً إلى أن المدخنين يشكّلون 82 في المئة من المصابين بورم خبيث في الرئة. التدخين سلّماً قصيراً للسرطان في السياق عينه، كشف الدكتور محمد الطراونة مدير «السجل الوطني للسرطان»، عن تسجيل 4815 إصابة بمرض السرطان بين الأردنيين في 2009، و4606 إصابة في 2008، ما يشكّل ارتفاعاً بنسبة 5.3 في المئة. وأشار إلى أن الأورام الخبيثة في القولون والمستقيم هي أكثر انتشاراً بين الرجال، فيما تصدّر سرطان الثدي قائمة الإصابات عند النساء. وربط بين هذه الأرقام وبين زيادة عدد السكان وارتفاع معدل الأعمار، وتغيّر نمط الحياة، وانتشار التدخين، وزيادة معدلات البدانة، وشيوع أنماط غير صحية في التغذية، وتضاؤل النشاط البدني وغيرها. وفي سياق متّصل، أوضح الدكتور هاشم الزين ممثل «منظمة الصحة العالمية» في الأردن، أن السرطان هو المسبب الرئيس الثاني للوفاة عالمياً، بعد أمراض القلب والأوعية الدموية. وأشار إلى التقدّم الهائل الذي تحقّق علمياً في التعرّف إلى مُسبّبات الأورام الخبيثة، خصوصاً في ما يتعلّق بالجينات والفيروسات وعوامل البيئة وغيرها، إضافة الى التطوّر الضخم في طرق التشخيص والكشف المُبكر عنه، وطُرق علاجه جراحياً وطبياً. ونوّه بالجهود التي تقودها «منظمة الصحة العالمية» و «الوكالة الدولية لبحوث السرطان» حاضراً، والتي تركّز على الوقاية من الأورام الخبيثة عبر دراسة عوامل الخطورة المتصلة بالسرطان. وأصدرت هذه المنظمة أخيراً، توصيات عالمية جديدة في شأن النشاط البدني، موضحة أن إجراء 150 دقيقة من النشاط البدني المعتدل أسبوعياً، يمكن ان يقلّل خطر الإصابة بالأنواع الأكثر شيوعاً من الأورام الخبيثة. مزيج الألم والإرادة تصعب زيارة «مركز الحسين للسرطان» من دون التعرّض للمعاناة الإنسانية المتصلة بالصراع مع هذا المرض الخبيث. ولم تستطع السيدة أمل حافظ ان تخفي الألم الذي يعتصرها وهي ترى ابنها عميد (14 سنة) يتألم يومياً نتيجة إصابته بسرطان الدم. وبصوت يكتنفه الحزن، أوضحت ل «الحياة» انها اكتشفت اصابة ولدها قبل عامين، عندما لاحظت أن وجهه يبدو شاحباً باستمرار، ثم رصدت نزول دم مع براز هذا الطفل. وعندها، هرعت به إلى المستشفى. ولم يتأخر الأطباء في التعرّف إلى الورم الخبيث. وأُحيل الطفل إلى «مركز الحسين للسرطان». وفي كل مراجعة لهذا المركز، تبقى الأم مع طفلها بضعة أيام في المركز، فترافقه في مراحل العلاج التي تتضمن جرعات من الأدوية الكيماوية. وتتسبّب هذه الأدوية بتقرحات في معدة الإبن عميد وتُحدث له آلاماً لا يقدر على تحمّلها أحياناً. وتدريجاً، أصبح الطفل ميّالاً للاكتئاب، ما حمّل والدته مزيداً من الحزن لأنها لا تستطيع فعل المزيد لمساعدته. وهي لا تجد مخرجاً سوى إيمانها بالله وابتهالاتها المحمّلة بالدعاء لابنها بالشفاء. ويشار إلى أن «مركز الحسين للسرطان» حصل على ثلاث شهادات اعتماد دولي International Accreditation. الاعتماد الأول حصل عليه في 2006، من «اللجنة الدولية المشتركة» التي تراقب تطبيق المعايير الدولية في مراكز الرعاية الصحية. وتسلّم المركز الاعتماد الثاني في 2007 من اللجنة عينها، لتأكيد تميّزه في علاج السرطان، مع الإشارة الى تفرّده بهذا التميّز بين دول العالم الثالث. وصدر الاعتماد الدولي الثالث في 2009، من «كلية الطب الشرعي الأميركية»، منوّهاً بالكفاءة الاستثنائية للمركز في علم الأمراض وخدمات المختبرات. والمعلوم أن المركز عينه معتمد أيضاً من جانب «مجلس اعتماد المؤسسات الصحية» في الأردن، الذي أشاد بقدرته على تطبيق نوعية متقدّمة من الرعاية الصحية لمرضى الأورام الخبيثة. واحتفل «مركز الحسين للسرطان» أخيراً بقاهري السرطان والناجين منه، بهدف زرع الأمل في نفوس مرضى الأورام الخبيثة، وتأكيداً لأن حب الحياة ينبع من الدين واليقين والتصميم على النجاح في مقاومة السرطان.