ندخل نحن العرب مرحلة تاريخية تتميز ب «الاستقلال الوطني الثاني». إنه نوع من الاستقلال عن الأنظمة الذي يحول الشعوب إلى مصدر السلطات جميعاً. لن يتم هذا التحول بضربة واحدة ولكننا نشهد في هذه المرحلة الانطلاقة المدوية لهذه التحولات. كل الانطلاقات تتميز بأنها شاقة ومفاجئة وذلك لأنها تؤسس وعياً جديداً وسلوكاً وتفكيراً مختلفاً. لقد أخذ هذا الاستقلال المفاجئ الأنظمة العربية بالمباغتة. وكيف لا يباغتها والأنظمة في معظمها رفضت مبدأ المشاركة ومبدأ الحريات السياسية والإعلامية؟ قامت الأنظمة العربية في معظمها على طمس الحقيقة، وإخفاء المعلومات حتى عن نفسها وعزل العناصر المتقدمة في المجتمع. في النهاية أصبحت الأنظمة ضحية نفسها، ضحية سياساتها وإعلامها. في النظام العربي مفاجآت دائمة كمفاجأة حرب 1967 ومفاجأة عام 1990، ومفاجأة عام 2003 وهكذا. لقد اكتشفت الشعوب العربية من خلال الثورات قدرتها الخلاقة على المقاومة السلمية لتغيير النظام السياسي المتخلف عن «العصر» و «المجتمع»، واكتشفت أن بإمكانها تحقيق أهدافها بمجرد إعلانها عدم التعاون مع حكامها. اكتشفت الشعوب العربية قوتها، واكتشف الشبان، وهم غالبية السكان، مكامن تأثيرهم وأن بإمكانهم إسقاط أقوى الأنظمة في مدد زمنية قياسية. سحب شرعية النظام بالكامل من خلال الإرادة الشعبية، هو ما يميز هذه المرحلة الجديدة. وتكتشف الشعوب أيضاً أن بمجرد بدء النظام بإطلاق النار على الصدور العارية يتعرى النظام، وتبرز هشاشته، وترفع ضده القضايا الدولية وصولاً إلى المطالبة بمحاكمات وتجميد أرصدة، بل يصبح مخرج النظام اكثر صعوبة مع كل استخدام للعنف ومع كل نشر للموت. إن الثورة تنتصر بمجرد أن يفرط النظام باستخدام القوة. فهناك علاقة طردية بين استخدام القوة وبين سقوط النظام. وبما أن القوة التي يمتلكها النظام قائمة على أجهزة الاستخبارات والأمن والقمع ومصادرة الحريات، فإن تحييد هذه الأجهزة وفقدانها لتأثيرها المفاجئ يجعلان النظام بلا أية مساحيق ومكملات وقوة، فمع فقدان الشرعية وفقدان الكفاءة وفقدان القدرة لا يبقى سوى قشرة هزيلة، لهذا تسقط الأنظمة بسهولة ويسر. إن أنظمة البوليس والقمع والقوة لن تنفع في المرحلة القادمة، بل الذي ينفع هو أنظمة الحوار والديموقراطية واحترام الكرامة الإنسانية والحقوق والحريات. ونكتشف ونحن في بدايات الإعصار الرملي الأكبر والأهم في تاريخنا العربي الحديث أن الأنظمة العربية تختلف في مدى شرعيتها وطبيعتها. فالأنظمة الملكية تتمتع بنسبة اكبر من الشرعية مقارنة بتلك التي يتمتع بها النظام الجمهوري، والأنظمة الملكية معرضة للهزات بقدر ما تعجز عن الإصلاح. فمثلاً حصلت إصلاحات محدودة في المغرب منذ مجيء الملك محمد السادس إلى الحكم وهذا يجعل آفاق الإصلاح الجوهري في المغرب ممكنة بهزات اقل، أما في الكويت فأرضية الإصلاح ممهدة بفضل قوانين وتشريعات وصراعات سياسية وأرضية شبه ديموقراطية، وستكون الهزات أيضاً في الكويت أكثر انسجاماً مع تاريخها السياسي، فقد أنجزت نصف الطريق نحو التحول. ستكون مهمة من لم يبدأوا بالإصلاح من الأنظمة الملكية والأميرية حتى الآن اكثر صعوبة وسخونة، فالتعود على الجديد ليس أمراً يسيراً، كما أن نقل الصلاحيات والتخلي عن السلطات والمشاركة ليست أموراً طبيعية لمن لم يعتد عليها. وعلى العموم ستصمد الأنظمة العربية الملكية في هذا الإعصار بمقدار ما تقدم على إصلاحات جدية تعيد تعريف شرعيتها على أرضية جديدة مفادها أن «الشعب مصدر السلطات». ذلك سيتطلب من الأنظمة خريطة طريق واضحة وصادقة تسير باتجاه الإصلاحات والديموقراطية المفتوحة والحريات الإعلامية والكرامة الإنسانية وفوق كل شيء وبعد تمهيد وتنمية سياسية: التداول السلمي على السلطة. ان مسألة تداول السلطة ستكون أساسية في المرحلة القادمة لجميع الأنظمة العربية بصرف النظر عن لونها. ربما يتحقق هذا مع نهاية العقد في جميع الأنظمة العربية. لكن في الأنظمة الجمهورية سيتم هذا من خلال إسقاط النظام بينما في النموذج الملكي سيتم تحقيق هذا الهدف من خلال إصلاح النظام. في الأنظمة الجمهورية سيلعب «الجيش» دور الضامن الأول لعدم تفكك الجمهورية وحماية الانتقال (وهو طرف همّشته الأنظمة الجمهورية لمصلحة قوى الأمن والاستخبارات)، وفي الدول الملكية ستلعب «الأسر الحاكمة» دور الضامن لوحدة البلاد وعدم تفككها. إن خروج الجيش من السياسة في الدول العربية لن يتم بمجرد تغيير النظام عبر الثورة كما هو الأمر في الوضع المصري. سيحتاج هذا الأمر إلى مرحلة تتضمن الكثير من التنمية والتطوير السياسي والممارسة، وسيتضح هذا بنسبة كبيرة بعد هدوء الإعصار. ومن جهة أخرى فإن خروج الأسر الحاكمة من السياسة نحو الملكية الدستورية المقيدة سيحتاج هو الآخر وقتاً أساسه التعمق بالإصلاحات كما حصل في تجارب عدة في العالم في العقود الماضية. لكن كل البدايات يجب أن تبدأ الآن، وخريطة طريق واضحة يجب أن تؤسس الآن لما هو قادم متوقع. يكتشف العرب الآن مخاطر الديكتاتورية والمركزية السياسية على ثرواتهم وعلى مستقبلهم وعلى أولادهم وكراماتهم. لهذا من الطبيعي أن يسعوا بعد الإعصار إلى بناء مؤسسات يراقب بعضها بعضاً ويؤسس لديموقراطية وحقوق ثابتة ومدد واضحة للرؤساء تمنع الديكتاتورية. يكفي أن نراقب أنظمة مبارك والقذافي وبن علي لنكتشف كيف تحولت مركزية السلطة إلى احد أسباب الفقر والتردي وضياع الثروة في هذه المجتمعات. من الاكتشافات الجديدة الجلية أن الإصلاح الدستوري انفتح على مصراعيه في جميع البلدان العربية، فقد تبين أن الدساتير بالإمكان تغييرها، وإنها ليست مقدسة بخاصة إذا تعارضت مع الديموقراطية والمشاركة الشعبية والحقوق والكرامة الإنسانية. إذاً في الثورات الجديدة ثورات دستورية تؤدي إلى تأسيس حياة ديموقراطية في البلاد العربية. لقد قدمت الشعوب العربية الكثير من الفرص لأنظمتها الراهنة، وأعطت الانطباع بالسكينة والقبول، وعاشت حالة استضعاف وتهميش. إنها في هذا تمتلك ذكاء تاريخياً في التعامل مع السلطة وغلوائها، تطمئنها عبر هدوئها وقبولها وإعلان ولائها، لكنها لا تتوقف عن المراقبة، عن التساؤل، عن جمع المعلومات، عن قول رأيها في الغرف المغلقة والجلسات العائلية. هناك ذكاء إنساني في حركات الناس والمجتمعات المحركة للتغيير، هذا الذكاء يعبر عن نفسه في توقيت محدد وفي زمن محدد انطلاقاًًً من معطيات وشقوق في جدار القمع والخوف. نتساءل من الذي أقنع بعض القادة بأن العرب مختلفون؟ من يدرس تاريخ الشرق يرَ انه اكثر ثورية من أي منطقة في العالم. أليست الثورات ضد الاستعمار نموذجاً كما حصل في فلسطين في الثلاثينات وفي الجزائر في الخمسينات من القرن العشرين؟ أليست الانقلابات العسكرية ثم التحركات الشعبية في ظل الحركة القومية العربية هي الأخرى نموذجاً آخر؟ أليست الانتفاضات الكثيرة في ظل النظام العربي الراهن مثل حماه وحمص ومثل انتفاضة فاس عام 1990، وانتفاضة سجن أبوسليم في ليبيا، وانتفاضة الثورة الفلسطينية في الستينات في الأردن ولبنان والمعارضة في لبنان وفي السودان والانتفاضات في العراق وغيرها من الدول العربية تعبيرات عن ثورية الشعوب؟ ألم يكن بروز «القاعدة» والجهادية الإسلامية وانتشارها عربياً تعبيراً عن مرض عميق في النظام العربي وعن ثورة مكبوتة لم تنفجر أو ثورة تبحث عن انفجار؟ كانت الجهادية الإسلامية المقاتلة تمثل إنذار ما قبل الثورات، كما كان الإرهاب الروسي في بدايات القرن العشرين تمهيداً للثورة عام 1905 ثم 1917. في التاريخ كان الإرهاب يمثل جرس الإنذار الأول للثورات القادمة. هكذا كان يجب أن نقرأ تلك الحركات ومضمونها. هذه مرحلة تحول تاريخية لم يعرف شرقنا العربي مثلها منذ زمن الاستقلال عن الاستعمار. لهذا تمثل استقلالاً ثانياً يؤسس لحضارة عربية أكثر توقداً وأقل استكانة، أكثر تساؤلاً وأقل تبعية، أكثر ديموقراطية ورفضاً للظلم وأكثر تحرراً وتمسكاً بالكرامة الإنسانية. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت