يستقر فضاء ساحة الاحتجاجات الشعبية الداعية إلى تغيير نظام الحكم في اليمن على مفهوم للمجتمع غير بعيد من الواقع القائم ومنظومة القيم والعلاقات السائدة. فالتغيير المنشود الذي يريده المحتجون يعكس ثقافة هشة، ملبدة بالتشوش. حالما تطأ ساحة التغيير في صنعاء، مقر تجمع المحتجين المطالبين برحيل الرئيس علي عبدالله صالح، تصادفك خيام بعناوين تحيلك إلى مناطق، فيما تندر الخيام القائمة على أساس المهنة أو الحاملة عناوين تتجاوز الانتماء التقليدي. ولئن افترض مفهوم الثورة السلمية، اجتراح صورة مغايرة للواقع الذي تسعى ثورة الشباب لتغييره بيد أن الحاصل في ساحة الاحتجاجات هو أن تمثيل المطالب يرسم على مقاس الواقع القديم، بدءاً من تضاؤل حضور المرأة وفصل الذكور عن الإناث مروراً بالتهافت المحموم على الخطابة ما دفع بعض اليساريين إلى تشكيل منصة ومكبر صوت خاص بهم، وليس انتهاء بالتصارع الحزبي للهيمنة على اللجان المنظمة للساحة، كل ذلك يشي بحال أقل مدنية مما يفترضه شعار التغيير. وبات لافتاً تموضع كل جماعة سياسية في جهة خاصة بها من الساحة ومعها شعاراتها وعناصرها، وفي بعض الأحيان أغانيها. ولا مناص والحال كذلك أن يتشابه معسكرا المناصرين للرئيس والداعين إلى رحيله خصوصاً لجهة التوجس من الآخر والتعاطي مع مفهوم الشراكة من زاوية تربصيّة. وفي حين يقول نصر، أحد المحتجّين في ساحة التغيير، إن عنصراً في اللجنة الأمنية المنظمة للساحة منعه من النقاش مع زميل له في خيمة الاعتصام، ويقول محمد وهو صحافي معارض إن أفراداً في اللجنة الأمنية أوقفوه على خلفية التقاطه صوراً، يؤكد احد الناشطين أن هذا ربما كان معمولاً به في بداية «التخييم»، أثناء احتدام المواجهة مع من يسميهم المحتجون «البلطجىة». ولا تزال الكاميرا تشكل هاجساً مشتركاً لكل من معارضي الرئيس صالح ومناصريه، وهو ما يبرره علي، من محافظة مأرب، بالقول إن «بعض الزائرين للساحة يصور الوجوه، ربما بقصد تكوين قاعدة معلومات عن المحتجين»، وبخاصة عندما تتناقل الأخبار معلومات عن أن طائرة هيليوكبتر كانت تصور مسيرة نظمتها المعارضة. وتتمايز طبيعة الحضور وتختلف في ساحات الاحتجاج تبعاً للمدينة. وفي حين تشكل الخيام الوسيلة الرئيسة للمعتصمين في كل من صنعاء وتعز، تخلو المدن الساحلية منها. وباستثناء موقف لباصات النقل استولى عليه محتجون في مديرية المنصورة في جنوب اليمن واتخذوا منه ملتقى لهم، تخلو بقية مدن محافظة عدن مثل خور مكسر وكريتر والمعلا من الخيام كما من الاعتصام المتواصل على مدار الساعة، ودرج المحتجون في هذه المدن على التلاقي مساء في ساحات خالية. وكانت تدابير أتخذتها القوى الأمنية للحيلولة دون تلاقي سكان مديريات عدن في ساحة واحدة عطّلت حركة النقل بين المديريات، وأفيد أن بعض المدارس أغلق على خلفية الإحداث. ويرى البعض خروج الناس في صنعاء للاعتصام وإلقاء الخطب أثناء الليل ثورة في حد ذاته، إذ قلما عُرف عن سكان صنعاء اهتمامهم بقضاء أوقات الليل والسهر خارج المنازل. ويتهكم البعض قائلاً إن ما فعله المحتجون هو أنهم استطاعوا كسر «قانون طوارئ صنعوه بأنفسهم». ويمضي معتصمو ساحة التغيير يومهم في الهتاف صباحاً والرقص على إيقاعات الطبل في ما يعرف برقصة البرع وتخزين القات خلال فترة بعد الظهر ليعاودوا في المساء الاستماع إلى كلمات تلقيها شخصيات عامة تزور الساحة وتؤيد مطالب المعتصمين. وتبدو ساحة الحرية في تعز أوفر حظاً في الانفتاح الجزئي على فضاءات حديثة، حيث تُنظّم حفلات موسيقية وغنائية لفرق محلية. وتنصب شاشة عرض عامة توفر للمعتصمين في الساحة مشاهدة التلفزيون. ومن اللافت حرص لجنة النظافة على متابعة الباعة في ساحة التغيير ومنعهم من ترك مخلفات. وكانت ساحة الحرية في تعز سجلت أول حفلة زفاف تقام في الساحة لشقيقين، لكنها جاءت متوافقة مع التقاليد السائدة إذ حضر العريسان من دون زوجتيهما. ويأخذ البعض على الكتلة الاجتماعية الداعية إلى رحيل الرئيس ائتلافها على خيط الولاءات التقليدية والجهوية، وعدم قطعها مع ثقافة الأحزاب القائمة، على غرار ما حدث في ثورتي تونس ومصر. ويلفت مروان (41 سنة) إلى ما يعتبره مظاهر نكوص في ثقافة المعتصمين، ومن ذلك رفع المحتجين شعارات وصوراً تتعارض مع مبدأ الحداثة السياسية التي تبشر بها الثورات التي تجتاح المنطقة. ويُذكر على سبيل المثال، رفع المحتجين صورة القردعي منفّذ عملية اغتيال الإمام يحي في انقلاب 1948، وهو الانقلاب الذي يقول بعضهم أنه مهّد لسلسلة الانقلابات الدموية والعسكرية التي شهدها اليمن. ويرشح من أحاديث بعض المحتجين ضيق أفق وعدم اعتراف بالآخر، وتذهب اللاعقلانية بالبعض إلى حد اعتبار ارتفاع عدد ضحايا التظاهرات في عدن نوعاً من التمييز ضد الجنوبيين. وتُروى في ساحة التغيير حكايات طريفة ومنها محاولة بعض الإسلاميين إيقاظ بعض الشبان لأداء صلاة الفجر فيرد هؤلاء: «المعذرة يا أخوان نحن أقباط»!.