بينما تقتصد بعض الدول في الموازنات المخصصة للبحث العلمي والبيئة لأنها تعتبرها من الكماليات في زمن التقشّف، فهي تجد ما يكفي من الأموال لصرفها على أمور تعتقد أنها أكثر أهمية. كلفة شراء لاعب كرة القدم البرازيلي نيمار من فريق برشلونة الإسباني تجاوزت 800 مليون دولار. هذه الصفقة تقضي أن يلعب نيمار مع فريق «باريس سان جيرمان» الفرنسي لخمس سنوات. اهتمامنا بالموضوع لا يعود إلى أن الصفقة هي الأغلى في تاريخ كرة القدم، بل إلى أن مصدر تمويلها بلد عربي، هو مالك النادي الفرنسي، كواحد من استثماراته في العلاقات العامة. لو كانت هذه الأموال لتعزيز الرياضة بين أهل البلد، لكان الاستثمار مفهوماً، حتى في زمن التقشّف. لكن الهدف هنا ينحصر في العلاقات العامة. وقد شاع في السنوات الأخيرة أيضاً شراء رياضيين أجانب محترفين في ألعاب القوى الفردية وتجنيسهم، لمجرد ذكر اسم البلد الشاري، إذا حاز أحدهم على ميدالية في مسابقة الركض أو القفز. فهل يساهم هذا في تعزيز القدرات الرياضية المحلية وتشجيع المواطنين على ممارسة الألعاب الرياضية والمنافسة والتفوّق؟ ويتساوى هذا مع إنشاء فروع محلية لجامعات عالمية، تكلف آلاف الملايين ولا يستفيد منها الا طلاب وباحثون أجانب، أو استيراد متاحف للفن الحديث لا يزورها احد من أبناء البلد. ليس ثمن شراء نيمار هو المبلغ الوحيد الذي كان يمكن استخدامه لغايات أكثر إلحاحاً. ومن هذه تعزيز التعليم والأبحاث، وتشجيع الرياضة بين المواطنين، ودعم الثقافة والفنون، وخلق فرص عمل وإنتاج حقيقية، ورفع مستوى الخدمات الصحية والبنى التحتية. ناهيك عن تحقيق مستويات أعلى من العدالة الاجتماعية والتخفيف من حدة الفقر حيث وُجد. لكن حتى لا أخرج عن موضوعي، سأحصر كلامي هنا في البيئة. فماذا – لو كنتُ نيمار – كنت أستطيع أن أفعل بمئات الملايين هذه؟ كنت خصصت نصف المبلغ للبحث العلمي في قضايا المياه والتصحر والطاقة وتغير المناخ والسياسات البيئية، على أن يتم صرفها في جامعات ومراكز أبحاث وطنية يديرها مواطنون، وتستخدم نتائجها في تطبيقات على الأرض. ربع المبلغ كان يمكن تخصيصه لتطوير برامج في التربية البيئية للمدارس تتعدى المناهج والكتب إلى نشاطات خارج الصفوف، وبرامج توعية بيئية تستخدم وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي للوصول إلى كل القطاعات والأعمار. أما الربع الباقي فكنت استخدمته لبرامج تدريب في مجالات مختلفة في الإدارة البيئية، لعاملين في القطاعين العام والخاص. لكنني لست نيمار، ولست لاعب كرة قدم، بل أنا عاملٌ في مجال البيئة. لذا لا أملك مئات ملايين الدولارات لاستثمارها في برامج بيئية نافعة. غير أنني أعرف، بحكم عملي، أن البلدان العربية تواجه أوضاعاً بيئية حرجة تعرّض وجودها نفسه للخطر، إذا لم تتم مواجهتها سريعاً. وفي طليعة التحديات التناقص المتسارع في كمية المياه المتجددة، والعجز في إنتاج الغذاء بسبب تفاقم الجفاف والتصحّر، وتلوُّث الهواء والشواطئ. وقد يكون الأهم من كل هذا الأخطار المتعاظمة لتغيّر المناخ، في منطقة هي الأكثر عرضة لآثاره المدمرة، بخاصة من تفاقم الجفاف وارتفاع مستويات البحار. وقد أظهر «أطلس البصمة البيئية» الذي أصدره المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) أن المنطقة العربية تستهلك من الموارد ضعف ما يمكن لأنظمتها الطبيعية تجديده، أي إنها في حالة إفلاس بيئي. لهذه الاعتبارات كلها، نقول إنّ الدول العربية مدعوة إلى الاستثمار في مستقبل أجيالها، بدءاً من تأمين استمرار حصولهم على الموارد الطبيعية الأساسية للحياة، من ماء نقي وتربة خصبة وهواء نظيف. وهذا يتطلب الاستثمار في إدارة رشيدة للموارد، الطبيعية والبشرية. لكن الواقع اليوم أنه في حين تقتطع بعض الدول مبالغ ضئيلة مخصصة للعلم والثقافة والبيئة، أو تحجبها بالكامل بحجة التقشّف لتراجع الأوضاع الاقتصادية، فهي لا تجد حرجاً في تخصيص آلاف الملايين لنوع من الاستثمارات الشبيهة بشراء لاعب الكرة نيمار. لو كنت نيمار، لاستخدمت الملايين في إحداث نهضة بيئية تنقل العرب إلى مشارف المستقبل. * الامين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية [email protected] www.najibsaab.com