ماذا بعد الاقتصاد الأخضر؟ سؤال طرحه مؤتمر الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين. ولأن المؤتمر عقد في سيول، عاصمة كوريا الجنوبية التي تتخذ من «النمو الأخضر» أساساً لسياساتها الاقتصادية، كان ممكناً طرح هذا السؤال. فمعظم بلدان العالم لم تبدأ بعد بالتعامل الجدي مع الاقتصاد الأخضر، ناهيك بالبحث في ما بعده. اتفق المتحاورون في سيول على أنه إذا كان الهدف المباشر من التحول إلى الاقتصاد الأخضر هو تأمين سبل العيش والبقاء للبشر في عالم يواجه نقصاً في الموارد الطبيعية، فالهدف في المدى البعيد يجب أن يكون تأمين نوعية حياة أفضل، وليس مجرد القدرة على الاستمرار في العيش. هذا يقتضي الانتقال إلى أنماط جديدة في الإنتاج والاستهلاك، تحافظ على التوازن في الموارد الطبيعية وتدعم قدرتها على التجدد. لكنها تذهب أبعد من هذا إلى تنمية القدرة التجديدية لهذه الموارد، وعدم الاكتفاء باستنزافها. قد تكون الكفاءة في استخدام الموارد الهدف الأكثر إلحاحاً في منطقتنا. فمع أن البلدان العربية هي الأفقر في المياه العذبة المتجددة، يتجاوز الاستهلاك الفردي المنزلي للمياه في بعض بلدانها أعلى المعدلات في العالم، وهي غالباً مياه بحر محلاة غالية الثمن. وتقلّ معدلات الكفاءة في الري عن ثلاثين في المئة. ولا تتجاوز كمية مياه الصرف التي تتم معالجتها وإعادة استعمالها خمسة في المئة. وتتميز معظم البلدان العربية بأدنى معدلات كفاءة استخدام الطاقة في العالم. ويظهر التقرير الجديد الذي يعده المنتدى العربي للبيئة والتنمية عن فرص البقاء في البلدان العربية أنه إذا رفعت الدول العربية الرئيسية المنتجة للحبوب معدلات الإنتاجية وكفاءة الري إلى المستوى العالمي فقط، يمكنها أن تسد العجز. ويستتبع هذا تطوير فصائل جديدة من النباتات تتحمل الحرارة والجفاف، واستنباط تقنيات رخيصة لتحلية مياه البحر، بما قد يسمح باستخدامها أيضاً للإنتاج الغذائي. لم تكن هناك حاجة في سيول لتعريف «الاقتصاد الأخضر»، فهو سياسة حكومية تتم ممارستها يومياً في التطبيق العملي. لكن الكلام على الاقتصاد الأخضر في المنطقة العربية يتطلب أمثلة واقعية لتفسيره. إنه الاقتصاد الذي يقوم على الاستثمار المتوازن للموارد، بما يحافظ على قدرة الطبيعة على التجدد، ويؤمن النمو الاقتصادي، الآن وفي المستقبل. وقد بينت الدراسات التي أجراها المنتدى العربي للبيئة والتنمية أن استثمار 100 بليون دولار سنوياً في الطاقة المتجددة يخلق أكثر من نصف مليون وظيفة جديدة، ويولد التحول إلى ممارسات زراعية مستدامة دخلاً إضافياً للبلدان العربية يبلغ نحو خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. أما تخضير 50 في المئة من قطاع النقل، بجعله أكثر كفاءة وأقل تلويثاً، فيمكن أن يوفر 23 بليون دولار سنوياً. يعتقد كثيرون أن التحول إلى الاقتصاد الأخضر يتطلب كلفة أكبر من أنماط التنمية التقليدية. هذا الاعتقاد خاطئ تماماً، لأن المسألة هي إعادة جدولة التكاليف ومراحل استعادة الاستثمارات وجني العوائد منها. فالاقتصاد الأخضر قد يستدعي كلفة أعلى في مراحل التخطيط والتنفيذ، لكنه يتطلب مصاريف أقل في مرحلة الصيانة. الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر يتطلب تطوير قاعدة صلبة للعلم والتكنولوجيا، وبنية تحتية للأبحاث من أجل التنمية. وأمام البلدان العربية المصدرة للنفط فرصة اليوم لتحويل جزء من دخلها إلى إقامة اقتصاد قائم على تكنولوجيا المعرفة. وهناك مبادرات واعدة في هذا المجال، مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا في السعودية ومدينة ومعهد مصدر في أبوظبي ومؤسسة قطر، المتخصصة في تطوير تكنولوجيات جديدة في قطاعات الطاقة والمياه وإنتاج الغذاء. في كوريا الجنوبية وزارة مختصة باقتصاد المعرفة، هي المسؤولة عن تخطيط برامج النمو الأخضر في البلاد. يمكن للدول العربية أن تتعلم الكثير من التجربة الكورية، من حيث توظيف البحث العلمي في صناعة سياسات التنمية. هذا يتطلب تحويل المبادرات إلى نتائج ملموسة في السياسات العامة، بدل الاكتفاء بالعلاقات العامة. [email protected] www.najibsaab.com * ينشر بالتزامن مع مجلة «البيئة والتنمية» عدد تشرين الأول (أكتوبر) 2012