للوهلة الأولى تبدو رسومه - وتماثيله أيضاً - كاريكاتورية. فهي كذلك بالأحجام التي يعطيها لشخصياتها. وهي كذلك بموضوعاتها وبعناوينها... غير ان تمعّنا في تلك الأعمال ومتابعة لموقع الرسام الكولومبي بوتيرو، في خريطة الفن الحديث في العالم، سيكشفان عن ان الكاريكاتور يشكل جانباً فقط من هذا العمل... أو هو، بالأحرى، عنصر الربط بين فن بوتيرو وما يحدث حوله في العالم. وفرناندو بوتيرو، الذي يرسم ويحقق تماثيله، منذ نحو ثلاثة أرباع القرن، ويعتبر من أشهر رسامي أميركا اللاتينية من الجيل الذي ورث ريفيرا وأوروزكو، الى جانب ويلفريدو لام وروبرتو ماتا، لم يبدأ اسمه بالظهور على الساحة الفنية العالمية، إلا بصورة متأخرة نسبياً: وذلك قبل نحو من خمسة وعشرين عاماً، حين عرضت منحوتات برونزية ضخمة من إنتاجه، في جادة الشانزيليزيه الباريسية، كما في جادة رئيسة في مدريد، وفي أماكن أخرى من العالم. منذ تلك اللحظة اكتشف جمهور الفن العريض، ما كان وقفاً قبل ذلك على النخبة العالمية وعلى العالم الإسباني - الأميركي اللاتيني. من هنا حين عرض بوتيرو قبل نحو خمس سنوات من الآن، لوحات عدة تحمل أسلوبه الفني - السياسي، نفسه، وتتحدث هذه المرة باحتجاج عن التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق، لم يفاجأ أحد، لا بفنه المتميز ولا بمواقفه السياسية التي يعبر عنها هذا الفن. في لوحاته «الأميركية – العراقية» تلك والتي أثارت ضجة وأمعنت في انتشار سمعة بوتيرو، ظلّ هذا الأخير أميناً لأسلوبه القديم نفسه، ولمواقفه من الفن والحياة ومن رؤيته الى العالم. وهي مواقف قال بوتيرو وأكد مراراً وتكراراً، انها أبداً لا يمكنها ان تكون بعيدة من أي فنان شريف ابن لأميركا اللاتينية. ومع هذا يتعين علينا ان نتنبّه دائماً الى أن هذه المواقف السياسية، مهما كانت احتجاجيتها وغضبها ومهما كانت تقدميتها، لا ينبغي أبداً أن تنسينا البعد الفني الكبير والمهيمن على لوحات بوتيرو وأعماله الأخرى. إذ في خلفية ذلك الاهتمام السياسي، هناك فن حقيقي وكبير، يبدو مستقى مباشرة من تقاليد أميركا اللاتينية، وواقعيتها السحرية، وحياتها ومأثوراتها الشعبية. ومن هنا، اذا كان في وسع المرء ان «يصدم» ما إن ينظر الى اللوحة التي تمثل مجموعة الانقلابيين، كصورة تذكارية، في بلد ما من بلدان أميركا اللاتينية - هو كولومبيا بالأحرى -، بالبعد السياسي الواضح فيها، من المؤكد ان العناصر الفنية التركيبية في اللوحة، ستقفز أمام ناظري هذا المرء فور ذلك، لتبقى أكثر مما يبقى المعنى السياسي للوحة. طبعاً لم يصرف بوتيرو كل أيامه وطاقاته لرسم مواضيع سياسية... فمثلاً، هو حقق لفن مصارعة الثيران - في أميركا اللاتينية، كما في إسبانيا - أعمالاً رائعة. وكذلك صور بورتريهات، ومشاهد منزلية، ومشاهد من الحياة العادية للناس. غير ان المهم هو انه صوّرها دائماً في بعد يرتبط بالتراث الفني (الإسباني واللاتيني) حتى وإن كان اشتغل على بعض سمات ذلك التراث استحواذاً ومواربة... وينطبق هذا، بصورة خاصة، على هذه اللوحة التي رسمها بوتيرو عام 1971، وتعتبر واحدة من أجمل لوحاته. يبلغ عرض «صورة رسمية للطغمة الانقلابية العسكرية» نحو 220 سم، وارتفاعها 171 سم... وهي تعود في أصلها الى رغبة بوتيرو في استخدام مشهد كان غويا - سلفه الاسباني الكبير - قد رسمه لأسرة شارل الرابع، في لوحة اعتبرت يومها «الصورة الرسمية للأسرة» على غرار ما كان يحدث قبل ولادة فن التصوير الفوتوغرافي. إذاً، أخذ بوتيرو تركيبة لوحة غويا، ليعيد الاشتغال عليها وقد أبدل، هذه المرة، الأسرة الملكية الإسبانية، بأعيان الطغمة الانقلابية. صحيح ان اللوحتين تبدوان متشابهتين تركيباً وموضوعاً، غير ان بوتيرو، الذي كانت له غايات سياسية صارخة من رسم اللوحة، أحدث تبديلاً أساسياً في موقع الشخصيات، كما في تعابير الوجوه، كما في الاشتغال على الأحجام، يحمل من السخرية بقدر ما يحمل من الرصد السياسي. ومع هذا يمكننا ان نصدق متابعي فن بوتيرو، إذ يؤكدون ان هذه اللوحة - وعلى غرار لوحة غويا - لم تشأ أبداً ان يطلع منها المشاهد باستنتاج ينمّ عن وضع سيطرة المسيطرين - على مقاليد الأمور - على بساط البحث أو الاتهام. ومن هنا، اذا ما تمعّنا في الوجوه، فسنجد ان ليس ثمة أي قسوة او حتى مرارة أو تهكم على الوجوه: انها بالأحرى وجوه تطفح بالشحوب لأشخاص يبدو واضحاً أنهم لا يتمتعون بالإرادة... وجوه تشي بأن أصحابها، هم دمى في يد الأقدار... ولعل خير دليل على هذا، ذلك الجنرال الجالس بين ذراعي زوجته التي تهدهده، كطفل يلعب بعلم كولومبيا. ولنتذكر هنا ان الشخص المقابل لهذا الجنرال في لوحة غويا كان طفلاً من أطفال الملك شارل الرابع. وواضح هنا ان كل هذا يضفي على اللوحة التباساً معيّناً ويعطيها تصميماً لا يسفر عن أي حكم أخلاقي أو قيمي، طالما ان متأمّلي فن بوتيرو تساءلوا دائماً أمام هذه اللوحة: عن أي طغمة عسكرية انقلابية يتحدث بوتيرو هنا؟... لقد عرفت بلاده عشرة انقلابات متتالية، ما يعني ان موضوعه لم يكن أبداً عصي المنال. ويستطرد المتسائلون: هل هو هنا يرسم هذه الطغمة لتخليدها؟ للهزء منها؟ للتنديد بها؟ والحال ان بوتيرو، حين طلب منه يوماً ان يجيب عن هذه الأسئلة، قال بكل بساطة: «أنا حين أبدأ برسم ديكتاتور ما، على سبيل المثال، أجد ان عليّ أول الأمر ان ألعب بالألوان مستخدماً إياها بكل حذر وحب - فالرسم (التلوين) هو، في مكان ما، فعل حب... الرسم يحوّل الكراهية الى حب. الأمر عندي ليس كما هو عند أوروزكو الذي رسم لوحات سياسية خالصة: ان الكراهية يمكن أن تقرأ لدى اوروزكو في كل ضربة فرشاة... في كل لون. أما لديّ، فالأمر على العكس: ان كل لمسة ريشة هي قبل أي شيء آخر فعل يحتوي حباً». من المؤكد هنا ان هذا الكلام الذي ينطبق، في شكل عام، على الشخصيات النسائية ذات الأحجام الضخمة التي يرسمها بوتيرو - أو يحققها في تماثيله البرونزية الضخمة -، يمكن تلمّسه أيضاً في لوحاته «الأكثر سياسية». وحسبنا اضافة الى التفرس في هذه اللوحة، ان نشاهد له لوحات مثل «الرئيس» و «السيدة الأولى» و «لويس السادس عشر وماري انطوانيت يزوران ميديلين»... وغيرها. فمن الواضح هنا ان الموضوع في اللوحة هو الذي يخدم الفن وليس العكس. غير ان هذه التأكيدات، من جانب بوتيرو أو من جانب دارسيه، لا يمكنها ان تخفي عن عيني متابع أعماله قدرته الفائقة على التعامل مع الأحداث السياسية - حتى من أجل تحويلها الى لوحات فنية فريدة من نوعها - من منطلق الراصد اليومي وصاحب الموقف (لوحة «موت بابلو اسكوبار»، مثلاً، أو لوحة «سيارة مفخخة»). وقد كان بوتيرو على هذه الشاكلة في اختياراته الفنية منذ بداياته هو الذي ولد في ميديلين (كولومبيا) عام 1932، وبدأ تمرده، حتى على الفن الحديث، منذ زيارته باريس عام 1953 وشعوره بخيبة الأمل إزاء الفن الحديث الذي اكتشفه، ما جعله يقرر الاكتفاء بتمضية أيام وأسابيع في اللوفر، جعلته على تواصل مع الفنون الكلاسيكية، التي لا يزال يعتبر نفسه، حتى اليوم، مكملاً أساسياً لها، هو الذي يجد مراجع لوحاته لدى غويا وفان دايك وبيلاسكويث، أكثر مما لدى أساطين القرن العشرين. ناهيك بأن جزءاً كبيراً من مواقفه السياسية ومنذ زمن مبكر يتكوّن من خلال مناقشاته الحادة حيناً والهادئة أحياناً مع رفيقه وصديقه الدائم مواطنه غابريال غارسيا ماركيز، كما يقول هو نفسه في كل مناسبة. [email protected]