يشكّل عجز المجتمع ومؤسساته في التعامل الردعي مع آفات اجتماعية بات التعايش معها يكاد يكون في شكل طبيعي - عادي، قلق مراقبين واختصاصيين في الجزائر من الحلقة المغيبة في خلفيات تمدد ظاهرة ما يسمى «الأنوميا»، التي لم تسلم منها مجتمعات كثيرة. ويحيل استحضار مسنون من جيل سبعينات القرن الماضي وثمانيناته الواقع المعكوس الذي بات يتخبّط فيه المجتمع إلى ظواهر أضحت محل تعايش. فقبل ثلاثة أو أربعة عقود، كان المرء يخجل ويخاف من القول إنه قدّم رشوة لفلان أو طلبها منه في مقابل خدمة ما، بل يُبقي الأمر سراً بينه وبين نفسه اتقاء لعقاب المجتمع قبل عقاب الدولة. أما الاعتراف بتعاطي المخدرات جهراً، فعُد فعلاً شائناً يدل على أن صاحبه قد بلغ درجة من الوقاحة يستحق عليها العقاب الشديد. كما يذكر مسنون أنه يوم كانت الصحف تَكتب عن حادثة إقدام شاب في مقتبل العمر على شنق نفسه، فإن الدنيا كانت تقوم ولا تقعد بسبب الواقعة التي كانت تهز المجتمع. وتقدّر الهيئة الجزائرية لترقية الصحة وتطوير البحث «فورام» وجود مليون مدمن ومستهلك للمخدرات في البلاد. في وقت تضع تقارير منظمة الشفافية الدولية الجزائر في مراتب متقدّمة في تزايد معدلات الفساد في شكل واسع بعدما أصبح «روتيناً» في الإدارات الرسمية. تعقيد وغرابة لكن ما الذي جعل «الذهول» من هول تلك الآفات يختفي ويصبح وكأنه أمر واقع على المجتمع التعايش معه وتقبّله، خصوصاً أن المراقبين متفقون في كون الأزمة الأمنية والسياسية التي عصفت بالجزائر خلال تسعينات القرن ال20 كانت سبباً في بروز ظواهر أكثر تعقيداً وغرابة. ويلخّص الاختصاصي الاجتماعي بوشمال عبد النور التحوّلات المجتمعية الطارئة في ظاهرة يطلق عليها الأكاديميون «الأنوميا» أو أزمة القيم، موضحاً ل «الحياة» أن «المجتمع الجزائري في ثمانينات القرن الماضي يختلف كثيراً عن الجيل الحالي، حتى أن الكثافة السكانية تغيّرت كثيراً، إذ لم تعد الأسرة تلعب دورها المنوط بها وتركت كل شيء للمدرسة والمجتمع». وينتقد بوشمال عدم امتلاك الجزائر مدرسة فعالة ومؤسسات اجتماعية قوية، بل «إن رقابة الدولة على الحياة الاجتماعية تكاد معدومة، وتتجلّى فقط في العقاب وزج الشباب في السجون. كما أن الدولة انتهجت في الأعوام الأخيرة سياسة جديدة تجاه المخدرات، مقرّة بأن المتعاطي مريض يجب علاجه. وقد جاء هذا الأمر متأخراً جداً». ويتابع بوشمال أنه كان على الدولة دعم المؤسسات الاجتماعية ومراكز الشباب وتوفير اختصاصيين ومرشدين للشباب وحضهم على العلم والمعرفة والانخراط في المهن». ويضيف: «على الدولة تغيير سياستها تجاه الفرد. ونحن نعرف أن أشكال التنمية الاجتماعية مصدرها فرد سليم ومواطن صالح، وما يحققه ذلك من مكاسب مجتمعية واقتصادية كبيرة». ويستوجب وفق خبراء علم الاجتماع والنفس عدم الرجوع إلى الظروف الاجتماعية فقط عند تفسير التفشّي المقلق لمظاهر الإجرام والسرقة والاعتداءات وكثرة الاحتجاجات، وارتفاع نسب الانتحار وانتشار الأمراض العقلية والعصبية، ومظاهر الهجرة غير الشرعية وهروب الأدمغة والكفاءات نحو الخارج، بل بالعودة الى حالة الضغط والإحباط التي يواجهها الفرد الجزائري بسبب أزمة «اللامعيارية» أو الأنوميا، التي جعلته يتخلّى عن مجموعة التصورات الأخلاقية والمعايير التي يخضع لها سلوكه في إطار البناء الاجتماعي العام. كما أن حالة الفراغ المعياري والقيمي التي ميّزت مرحلة التسعينات سمحت بظهور أشكال لا حصر لها من الانحراف السلوكي لدى الجزائريين. وتتداخل القيم، في أغلب المجتمعات، مع العادات والتقاليد والأعراف، وتتنوّع لتشمل القيم التدين، الورع، التقوى، التضامن، إلى الاجتماعية والاقتصادية. ويفسّر الباحث في علم الاجتماع الثقافي هشام شراد هذه الظاهرة بقوله، إن القيم تنتقل من جيل إلى جيل من طريق ما يسمّى التنشئة الاجتماعية وكذلك الأسرية. وإن التغيّر يطرأ عليها وهو يفسّر ما يعانيه المجتمع الجزائري من ظاهرة تصدّع قيمه وفقدانها فاعليتها، وكذلك ظاهرة اللامعيارية وصراع الأجيال وتضاد القيم. ويتساءل: «وإلا كيف نفسّر ما يعرفه مجتمعنا من سلوكيات عدوانية وإجرامية كالسرقة والرشوة والاختطاف وتعاطي المخدرات والإدمان والانتحار والعنف اللفظي والجسدي. وتعكس هذه السلوكيات بطبيعة الحال تصدّع منظومة القيم وضعف فاعليتها في ضبط السلوك الاجتماعي لأفراد المجتمع وتحديده وتوجيهه إلى غايات محددة». التربية المغيّبة ويرى أستاذ التراث في جامعة الجزائر محمد رسوغة أن للتنشئة التربوية دوراً كبيراً في المتغيّرات الاجتماعية السريعة لدى الشباب، اذ تستطيع التربية أن تكوّن شباباً قادرين على التكيّف في محيطهم، بسبب وتيرة التغيرات التي تمس القيم وبالتالي فهي آيلة لا محالة للتغيّر. وستكون أحد أهم أسباب الأزمات الاجتماعية التي يصطدم بها الشباب في مراحل حياتهم، ما يجعلهم يرفضون الامتثال لقواعد القيم السائدة في مجتمعهم ورفضهم لها. ويكرر رسوغة ل «الحياة» ان «العولمة» كانت من الأسباب المؤثرة في قيم الثقافة الجزائرية بعدما أضحى العالم قرية صغيرة، ما أدى إلى احتكاك الثقافات المختلفة في ما بينها. وأصبحت أيضاً الأفكار سلعاً عابرة للقارات ومهددة لنسق القيم والأخلاق. ويلخّص الباحث الوضع اليوم بحالة الازدواجية الثقافية والصراع القيمي في سياق تعارض نسق قيم مجتمع المواطن مع واقعه المعاش والقيم الجديدة التي يصدّرها الغرب، حيث تقوم وسائل الإعلام بتغذية هذا الصراع، والتركيز على ترويج ثقافة الغالب وتنميط سلوكيات المغلوب استناداً إلى أفكار عبد الرحمن بن خلدون. وكحل لهذه الظاهرة، يقترح بوشمال عدم الاكتفاء بمعالجة المريض بل العمل على تدريب الفرد اجتماعياً على حلّ المشكلات والتعايش الإيجابي وإعطاء الأولوية للإنسان وتوفير سبل العيش الكريم.