مضت أسابيع على نشوب «ثورة الياسمين» في تونس ولم تخفت أصداء الحدث الفريد الذي وقع من دون سابق إنذار لكنه ألقى حجراً في البحيرة العربية الراكدة وأشعل نار الجدل والعواصف والحساسيات والتكهنات والتوقعات ومعها المزايدات والمبالغات والاستغلال الرخيص لانتفاضة الشعب التونسي الذي تربى على يد رئيسه الراحل الحبيب بورقيبة ورفاقه الذي كان يحلو للناس أن يلقبوه بالمجاهد الأكبر. الأكيد أن الشعب التونسي قد انتصر وأن قيد الديكتاتورية قد انكسر، والأكيد أن «ثورة الياسمين» قد ضربت المثل في التضحية والإقدام في وجه القبضة الحديد مع الإصرار على الوصول إلى مبتغاها مهما كان الثمن. والصحيح أن العالم كله شهد للجماهير التونسية بوطنيتها وجرأتها على تحدي المخاطر ومواجهة سلطة كان يظن أنها لا تقهر، كما اعترف بشرعية هذه الثورة وسحب اعترافه بشرعية النظام البائد. كل هذا صحيح وواضح، ولكن ماذا بعد؟ هذا هو السؤال الوحيد المطروح الآن من دون أن نجد جواباً شافياً عليه بل نجد فرضيات مؤرقة ومخاوف من أن تتكرر تجارب الثورات السابقة ومعها كل التحركات الجماهيرية والانقلابات ليس في البلاد العربية فحسب بل في كل أنحاء العالم إن لم يتمكن رموز العهد الجديد من توحيد صفوفهم والابتعاد عن سياسة الانتقام وعزل الآخر مهما كان ماضيه وتوجهاته السياسية. فما يجرى في تونس الآن من تصنيفات وتفرقة بين الأحزاب والقوى وداخل النقابات لا يبشر بالخير، وهذا ينطبق أيضاً على الدعوات التي تطالب بعزل حزب التجمع الديموقراطي وإقصاء رموزه ومعاقبة محازبيه وجلهم من المجاهدين والمناضلين والمؤسسين للحزب الدستوري الذي كان يتزعمه بورقيبة وحوله بن علي إلى «التجمع». فقد شهدت دول عدة ممارسة مماثلة وانتهجت سياسة استقصائية ففشلت تجربتها وانهارت وأخذت في طريقها الوطن والشعب إلى طريق الدمار والتقسيم والتفتيت. وأكبر مثال أخير على ذلك ما جرى في العراق بعد الاحتلال الأميركي وانهيار نظام صدام حسين حيث أدت سياسة اجتثاث «البعث» إلى صراعات دموية وأعمال عنف أنهكت العراق إن لم تكن قد قضت على مناعته وقدرته على الاستمرار. ولهذا لا بد من وقفة تأمل وتفكير لأخذ الدروس المستفادة من تجربة «ثورة الياسمين» وما آلت إليه وما شهدته من أحداث، وما تخللها من أعمال عنف ووضع جردة حساب بالسلبيات والإيجابيات وقطع الطريق على أصحاب المطامع والغايات وكل من استغل ما جرى لتشجيع الغوغاء على العنف وارتكاب السرقات والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة كما جرى في مصر أخيراً. بعد هذه الوقفة المتأنية لا بد من تغليب الحكمة والعمل على رسم خريطة طريق للمستقبل: كيف سيكون رأي شعب تونس فيه؟ وكيف السبيل لتحقيق الأهداف وتحويل الأحلام إلى وقائع وحقائق؟ وهل من المعقول أن يتم كل ذلك بقوى مشتتة وأحزاب متصارعة وقوى متفرقة؟ أم أن الواجب يفرض على الجميع المشاركة في إعادة تأسيس الوطن على أساس العدالة والمساواة والحرية والشفافية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان كخطوة لا بد منها للممارسة الديموقراطية على أساس دستور عصري يصاغ من جديد بإرادة تضامنية موحدة. تلك الأسئلة تحتاج إلى أجوبة شافية لا تلوح في الأفق دلائل على أنها ستجاب حتى تتحول «ثورة الياسمين» إلى دولة تحمل عنوان «ربيع تونس». فالذين هللوا للثورة عليهم انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع حتى تكتمل فرحتهم ويطمئنوا إلى الحاضر والمستقبل والمصير ويستدلوا على معالم طريق الأمن والأمان والاستقرار. والذين نادوا وصرخوا في الفضائيات، وكتبوا في الصحف ودعوا إلى تعميم التجربة وبشروا بانتقال العدوى إلى دول عربية أخرى عليهم متابعة الحدث واستخلاص الدروس والعبر لمعرفة المصير ودراسة النتائج لأن العبرة في خواتم الأمور وليس في بداياتها. فتونس بلد فريد من نوعه ليس في المغرب العربي فحسب بل في المشرق أيضاً: دولة عربية إسلامية ثارت على الاستعمار الفرنسي وتحررت ثم تحولت إلى نظام ديموقراطي علماني يطبق قوانين مختلفة في الأحوال الشخصية والزواج والطلاق وتعدد الزوجات وحقوق المرأة وغيرها. وفيها تيار إسلامي متشدد كان قوياً كاد أن يقضي على النظام ويحكم البلاد ولكنه قمع وتوارى ليعمل في السر، وأعتقد أنه ما زال قوياً في الأوساط الشعبية أو على الأقل أنه سيتمكن من استعادة قوته في ظل المتغيرات الجديدة وصراعات الأحزاب. فحزب «النهضة» الإسلامي هو الأقوى بين الأحزاب والمنظمات المتوالدة التي تعد بالعشرات، ولا يقف في وجهه إلا حزب «التجمع» إذا نجح في التحول من حزب حاكم إلى حزب مشارك في اللعبة الديموقراطية. فالأحزاب الأخرى تتراوح بين اليمين واليسار وتتصارع في ما بينها من دون أن تتنبه للتنافس الدولي حول تونس منذ القدم أو لموقعها في المغرب العربي وتنافس الجزائر والمغرب على كسب ودها أو مد النفوذ إليها. فالمخاوف كثيرة والمستقبل غامض، وأكبر دليل على ذلك ما جرى عند تشكيل الحكومة الموقتة وما يكتنف النظام الهش من مخاطر ومصاعب وعقبات، فلا أحد يستطيع أن يتنبأ أو يحدد كيف ستجرى عليه الأمور قبل انتخابات الرئاسة وبعدها وقبل الانتخابات التشريعية وما بعدها. ثم ماذا عن المطالبة بوضع دستور جديد ومن الذي يقرر بنوده وكيف؟ وهل سيقبل الجميع بأصول اللعبة الديموقراطية ومبدأ تداول السلطة. كل هذه الأسئلة تستحق الدرس والتمحيص حتى لا تأكل الثورة أبناءها وتدفع تونس الشعب والوطن والحلم الثمن. والأخطر والأهم من «الترف الديموقراطي»، مصير الوضع الاقتصادي ولقمة عيش المواطن التي شكلت الشرارة الأولى التي أطلقت الثورة الشعبية. فخسائر الأيام الأولى فاقت بليوني دولار والخسائر تتوالى لأن تونس بلد سياحي يعيش على الدخل الذي يوفره هذا القطاع الحيوي إضافة إلى تدفق الاستثمار العربي والأجنبي، وبكل أسف فإن صنبور هذين الدخلين قد انقطع، ولا يلوح في الأفق القريب ما يشير إلى أنه سيفتح من جديد، لأن رأس المال جبان، والسائح يبحث عن الراحة والأمن والأمان وهذا غير متوافر حتى اللحظة، ولن تعود المياه إلى مجاريها قبل أن تستقر الأحوال ويصل الفرقاء إلى حلول جذرية ترسي بناء دولة ديموقراطية عادلة يلتف حولها الشعب وتقوم سلطة حازمة وحاسمة تطبق الدستور وتقيم سيادة القانون وتمنع الخضات وتجمد الخلافات والصراعات ولو فترة انتقالية. هنا قد يقول قائل أن النظام السابق قد أمن أجواء الأمن والاستقرار، وهذا صحيح لكنه قام على باطل وقمع ونشر الفساد. ولم يكتفِ بفترة أو فترتين من حكم بن علي بل أراد المزيد فكان ما كان. والأكيد أن بن علي كان سيتحول إلى رمز وطني لو اكتفى بفترة رئاسته وبنى نظاماً ديموقراطياً عصرياً وتنحى بعدها، لكنه آثر ارتكاب خطأ بورقيبة الذي قلبه بعد أن وثق به وعينه وزيراً أول لينطبق عليه بعد ذلك مبدأ «من أخذ السيف بالسيف يؤخذ»... أو بالشعب يؤخذ! والأكيد أيضاً أن بورقيبة لو تنحى قبل الانقلاب عليه، أو لتركته الحاشية يفعل لأن المرض كان قد تمكن منه في آخر عهده، لكان القدوة والرمز والمثال بدلاً من الذل الذي تعرض له في أيامه الأخيرة رغم كل ما قدمه لتونس وما ضحى من أجلها. وما جرى لبن علي سبقته أمثلة كثيرة من بينها تجربة صدام حسين الذي لو لم يقم على القمع والديكتاتورية والتعنت وضحى بنفسه في سبيل وطنه لما وصل العراق إلى ما وصل إليه، ولكنه أبى ورفض أن يتنحى ليجنب وطنه الاحتلال فدمر نفسه وأعطى المثل السيء عن الفرد الذي يدمر البلد والديكتاتور الذي يدمر الشعب ويقهره. ولهذا كله أضع يدي على قلبي وأدعو لتونس بالسلامة واليسر والأمن والاستقرار وأن يجنبها الديكتاتورية والديكتاتوريين وأن يلهم قادتها الجدد الحكمة والمرونة والعقلانية ويملأ قلوبهم بمشاعر الوطنية وحب الوطن حتى لا تتكرر تجربة لبنان وغير لبنان ولا تسير الأمور من سيء إلى أسوأ نتيجة للفراغ المرتقب والصراعات الحزبية والعقائدية التي لا تولّد سوى الشقاق والنفاق. هذا ما يخشاه المخلصون الذين أحبوا تونس وشعبها النبيل الطيب والحضاري وأشادوا بنهضته وعقلانيته لأن البديل من الوفاق والوئام هو الخراب وقتل الحلم التونسي... حلم الشعب وحلم الوطن وحلم محبي تونس... وبعدها لا وجود إلا للكوابيس لا سمح الله. وحمى الله تونس وحقق لشعبها حلمه الكبير وحمى الله مصر وشعبها لأن ما ينطبق على تونس ينطبق عليها. * كاتب عربي