بمزيج من الصواريخ وتجربة تفجير نووي، رسمت كوريا الشمالية لنفسها خيالاً من القوّة يفوق ما تملكه بيونغيانغ فعليّاً في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والإستراتيجيا معاً. وبانتقالها إلى مستوى السلاح الهيدروجيني الذي يفوق الذري بأضعاف مضاعفة، أعاد نظام الرئيس كيم جونغ آون (الثالث)، إلى الأذهان صوراً ظن كثيرون أنها دفنت مع نهاية «الحرب الباردة» وما تلاها من اتفاقات في شأن التخلص التدريجي من أسلحة الذرّة (أنظر «الحياة» 16 تشرين أول (أكتوبر) 2016). وعادت خيالات الدول المتسابقة على امتلاك السلاح النوعي الذي يشكّل سقف الردع الإستراتيجي عالميّاً. ولعل البعد الأكثر تأثيراً وإستراتيجيّة في الهيدروجينيّة الكوريّة، أنها جاءت بعد سلسلة من تجارب على صواريخ «متفاوتة» المدى، نجح آخرها في العبور فوق الأرخبيل الياباني، قبل أن يسقط في المحيط الهادئ. وانبعث من الهزّات الجيولوجيّة التي رافقت تلك القنبلة الكوريّة، صورة مرعبة لسلاح هيدروجيني إستراتيجي يحمله صاروخ باليستي عابر للقارات هو أيضاً سلاح إستراتيجي، فيضرب أطراف الأرض، بداية من اليابان القريبة نسبيّاً وربما ليس انتهاءً بالولاياتالمتحدة غير البعيدة كثيراً أيضاً! والأرجح أنّ مزيج «الصاروخ والقنبلة» يكمن في أساس تحرّكات الدول الكبرى، خصوصاً أميركا الساعية إلى ردع إستراتيجي فعّال لنظام كيم الثالث، وروسيا التي تملك حدوداً أرضيّة مشتركة مع كوريا الشماليّة، والصين التي تشتهر بعلاقاتها الوثيقة بحكّام بيونغيانغ. وفي خلفية الصورة عينها، هناك العملاق الاقتصادي الياباني الذي يهمه ردع كيم الثالث، لكن من دون أن يدوّي السلاح قربه. وتبدو الهند التي مالت إلى واشنطن بعد طول ميل إلى موسكو، شديدة الاهتمام ب «الصاروخ والقنبلة»، خصوصاً مع التجاذب المقلق (على رغم جهود تحسين الأجواء) في علاقتها مع الصين أيضاً. هناك خريطة متشابكة في السياسة والإستراتيجيا يطول البحث فيها، لكن البعد العلمي في التحرّك الكوري الخطير يتمثّل في «القنبلة والصاروخ» وهما مزيج مرعب تماماً! ابحث عن قذيفة طائرة تبدو سيرة الصاروخ حربائية بامتياز. ومنذ نشأته الأولى في الصين، ارتدى ألواناً تمزج فرح الألعاب الناريّة ورهبة الصواريخ الأولى. وتقدّم مرتدياً ألوان الرمح المشتعل ثم القذيفة الضخمة الذاتيّة التوجيه، ما جعل مساره يتباطأ قليلاً مع تطوّر المدافع وقذائفها واستخداماتها. وما لبث أن تقلّب بين ألوان تفكير علماء كثر بجسم يطير بتوجيه ذاتي، ومدفعيّة تصنع ستاراً نارياً ضخماً وطائرة تحلّق بأسرع من الصوت وغيرها. وبعدها، ارتدى أثواباً أشد رهبة، لكنها ليست أقل تلوّناً وتنوّعاً، بأن مزج بين كونه حاملاً لمغامرات الإنسان العلميّة في اكتشاف الفضاء، وسلاحاً يعبر القارات حاملاً رؤوساً نوويّة، ما جعله شيئاً مراوغاً بين الدمار الشامل الآتي من السماء، وسلاح الردع المتبادل الذي يضمن السلام المرتكز على توازن الرعب. وفي أثواب أكثر جدّة، تخالط جسده الصلب مع الكومبيوتر الذي سُخّر عقلاً مُفكّراً يربط الصاروخ بالأقمار الاصطناعيّة، كما أمعن في إظهار ردائه العلمي الزاهي عبر محرّك الدفع الأيوني الذي يُوظّف طاقة الذرّة لصنع مركبات لا تكف عن التجوال بين الكواكب! ولعل من المثير تذكّر أنّ كتاباً غربيّاً ظهر في الآونة الأخيرة عن اختراع الصاروخ، تضمّن حديثاً طويلاً عن مساهمة العرب في تطوّره. واستدراكاً، حدثت مساهمة العرب في زمن بعيد قَبلَ أن تكفّ المجمتعات العربيّة عن المشاركة الفعّالة في مسار الحضارة وعلومها! إذ تحدّث كتاب «القذائف والصواريخ» (تأليف بودوين فان ريبر) عن العالِم السوري الحسّن الرمّاح الذي وضع دراسة عنوانها «أطروحة عن الفروسيّة والمكائد الحربية»، أورد فيها أوصافاً مفصّلة عن الأسلحة الصاروخيّة. ووصف الرمّاح أحد الأسلحة بأنه «بيضة صاروخيّة تُحَرّك نفسها وتُحرِق»، مشيراً إلى أنها استُعمِلَت في مواجهة بين جيوش عربيّة وفرنسيّة في معركة «دامية» عام 1248. وأثبت الكتاب صحّة ما وصفه الرمّاح مشيراً إلى معلومات مماثلة عن المعركة وردت في كتاب فرنسي عنها. إذ تحدّث الفرنسي عن سلاح عربي ضرب الأرض «قاذِفاً نيراناً ومُبعثراً الفرسان الفرنسيين». ووضع الرمّاح كتابه بعد المعركة بقرابة نصف قرن. ثلج الصين و «سهم كاثاي» ورد في كتاب «القذائف والصواريخ» أيضاً، ذكر مخطوطات عربيّة تتحدث عن صواريخ صينيّة على هيئة سهامٍ من نار. ونقل عن مخطوطة من القرن 14 لعالِم عربي آخر اسمه شمس الدين محمد عنوانها «تشكيلة تجمع مختلف فروع الفن»، حديثها عن «سهم كاثاي»، مشيراً إلى أن «كاثاي» من أسماء الصين. كما نقل الكتاب أنّ مصادر عربيّة أخرى تناولت «الملح الصخري»، وهو مُكوّن أساسي في البارود، وسمّته «ثلج الصين». وتذكيراً، صدر الكتاب ضمن سلسلة «قصّة تكنولوجيا» وهي مبادرة مشتركة بين «مركز البابطين للترجمة» و «الدار العربيّة للعلوم- ناشرون»، تروي تطوّر التقنيّات الحديثة، وتُخصّص كتاباً لكل منها. (انظر مثلاً عرض كتاب «الروبوتات» من السلسلة نفسها، في «الحياة» 22 شباط - فبراير 2013). عن «تغريدة» روسيّة لم تطلق... ليس بعد! بدأ العمل على تصميم نظام «توبول أم» Topol-M الصاروخي السيّار عام 1977. وبدأ التسلّح به في 1988. وبلغ عدد ذلك النوع من الصواريخ التي صنعتها روسيا 369 صاروخاً... لحد الآن. ويبلغ مدى «توبول أم» قرابة 11 ألف كيلومتر، وتصل القدرة التدميريّة لرأسه الحربيّ إلى ما يزيد على نصف ميلون طن من مادة «تي أن تي». ويتميز بالمناورة السريعة، وبقدرته على اختراق صفوف كاملة من الدفاعات المنسّقة المضادة للصواريخ، ما يعتبر من عوامل الحفاظ على القدرة المطلوبة لقوة تلك الصواريخ الإستراتيجيّة الروسيّة. يبلغ طول «توبول أم» 22.7 متر، وقطره 186 سنتيمتراً. ويكون وزنه عند الانطلاق قرابة 47 طنًا. ويقدر على حمل رأس حربي متفجر يزيد وزنه على 1.2 طن. ويعمل بالوقود الصلب الثلاثي المراحل. وزوّدته روسيا رؤوساً نوويّة منفصلة، قادرة على الانشطار. ويورد موقع «غلوبال سكيورتي.أورغ» Global Security.org التابع للبنتاغون، أن «توبول أم»، القابل للتخزين تحت الأرض والذي يُطلَق من منصة متحركة إضافة الى إمكان إطلاقه من محطات ثابتة، يعتبر ركيزة الدفاع الإستراتيجي الروسي في القرن ال 21. ويشير إلى أن «معهد موسكو للهندسة الحراريّة» ينفرد بالقدرة على صنعه. ويعتبر أول سلاح إستراتيجي من نوعه لم تشارك في صنعه أوكرانيا أو دول الاتحاد السوفياتي السابق. وليس بعيداً في الذاكرة أنّ موسكو اختبرته فعلياً في 20 كانون الأول (ديسمبر) 1994، كما اختبرت أجهزة طيرانه في 1995. سجّل نجاحات مبهرة استطاع «توبول أم» النجاح في تجارب طيرانه كلّها، على رغم أن نقصاً في التمويل حال دون الإنتاج الموسّع له. ومن المستطاع التنويه أيضاً بنجاح التجربة الرابعة لطيرانه، حين أطلق من موقع اختبار للأسلحة الصاروخيّة تابع ل «القوات الباليستية الإستراتيجيّة»، شمال موسكو عام 1999. وآنذاك، انطلق صاروخ «توبول أم» ليحط في موقع اختبارات مماثل في «كورا» في خليج «كامشتكا» القريب من اليابان، قاطعاً مسافة تقارب 8000 كيلومتر. وكرّر الصاروخ الرحلة عينها في 10 شباط (فبراير) 2000. وفي خريف ذلك العام، اجتاز الصاروخ التجربة ال 12. إذ انطلق من موقع القوات الباليستيّة في موسكو ليصيب هدفاً في القطب الشمالي، مع ملاحظة أنه أطلق من منصة متحركة وقطع 4 آلاف كيلومتر. وفي عام 2005، أعلن معهد دولي متخصّص في دراسات الأسلحة الإستراتيجيّة، أن روسيا تمتلك 496 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات، منها 270 صاروخاً من نوع «آر أس 12- أم توبول»، موضوعة على منصّات متحركة. وفي عام 2006، صرح الكولونيل نيكولاي سولوفستوف، رئيس القوات الصاروخيّة الإستراتيجيّة الروسيّة، أن بلاده شرعت في تجديد صاروخ «توبول أم» (من نوع «أس أس- 27») كي تستبدل رأسه الذي يحمل سلاحاً وحيداً، إلى رأس متعدد المراحل، ما يعني قدرته على حمل أكثر من قنبلة ذريّة. ويتوقّع موقع «غلوبال سكيورتي.أورغ» أن لا تمتلك القوات الروسيّة، في حال نجاح التوصل إلى معاهدة مع الولاياتالمتحدة تتضمن خفضاً متبادلاً للإسلحة الإستراتيجية، سوى 313 صاروخاً بالستياً عابراً للقارات، منها 159 صاروخاً من نوع «توبول أم» يمكن إطلاقها من منصات متحركة. معادلات صنعت دماراً شاملاً نجمت عن النظرية الخاصة للنسبيّة التي وضعها العالِم الشهير آلبرت آينشتاين، مُعادلة ضارية الشهرة تربط الطاقة التي تنجم عن جسم ما، بكتلته ومربع سرعته. وتبيّنت الإملاءات الهائلة لتلك المعادلة بعد ظهورها على الورق بأربعين سنة، عند تفجير القنابل الذريّة في هيروشيما وناغازاكي. ووفق نظرية آينشتاين، التي برهنت صحتها تلك الأيام المُرعبة من آب (أغسطس) 1945، تحتوي الذرّات كميّة هائلة من الطاقة تكون محتبسة في جسيماتها. وإذا أرغمت تلك الجسيمات على ترك نظامها كالحال عند إطلاق القنبلة الذريّة، فإنها تفقد كمية ضئيلة من كتلتها مقابل إطلاق كميّات هائلة من الطاقة. في تلك المعادلة، فإن مربّع السرعة يحدّد الطاقة التي تنطلق من الذرّة. وعند سرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية)، يكون مربّعها يساوي تسعين بليوناً. وإذا ضُرب العدد برقم يمثّل كمية المادة، فإن الحاصل الذي يُعبر عن كمية الطاقة يكون ضخماً، مهما ضؤلت كمية المادة. وخلال الخمسينات من القرن العشرين، عرضت مجموعة من الدول الكبرى، أولها أميركا وتلتها روسيا ثم بريطانيا، عضلاتها العلميّة بتفجير قنابل هيدروجينيّة. ويُطلق ذلك النوع من القنابل طاقته عبر تحويل الهيدروجين إلى هيليوم، على غرار ما يحدث في قلب الفرن الشمسي، مستعملاً قنابل ذريّة كصاعق لتحفيز الانفجار الكبير! واستطاع الروس تحقيق القنبلة الهيدروجينيّة الأضخم، بفضل مساهمة علميّة وازنة من العالِم السوفياتي أندريه ديميتريفيتش ساخاروف. وفي 20 تشرين أول (أكتوبر) 1961، على الطرف الشمالي من جزيرة «نوفايا زيملايا»، أطلقوا قنبلة حوّلت 3 كيلوغرامات من المادة إلى طاقة منفلتة. بلغت قوة تلك القنبلة 57 ميغاطن، ما يزيد عن قنبلة هيروشيما 3 آلاف ضعف. ويُسمى ذلك «علوماً تطبيقية»! ثمة استطراد واجب. على رغم تكريمه في خمسينات القرن العشرين بجائزة «بطل العمل الاشتراكي» (ثلاث مرات)، ووسامي لينين وستالين (إضافة إلى نيله جائزة نوبل في 1975) تمرّد ساخاروف على النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي. وانحاز إلى الحريّة في السياسة والمجتمع، فعانى اضطهاداً مديداً. وكرّمه الاتحاد الأوروبي بأن خصّص جائزة سنويّة تحمل اسمه، وتمنح للمدافعين عن الحريات في بلادهم.