يعزز عادل محمود الزحف الشعري إلى الرواية من خلال روايته الثالثة «قطعة جحيم لهذه الجنة» (دار التكوين 2017). وقد غلب في هذا الزحف أن تعددت الزوجات، فالشاعر يجمع الشعر إلى الرواية، وندر أن طلق الزوجة القديمة، وتفرغ للجديدة. أما أثر الأصل الشعري في الجديد الروائي، فكان ولا يزال- وربما سوف يبقى- يتقلب بين أن يكون عبئاً بنائياً، أو خديعة لغوية، أو نسغاً مختلفاً وخصيباً في الرواية. ولست أدري ما إذا كان يصح أن تُعزى البداية، مثلاً، إلى كوليت خوري وسلمى الحفار الكزبري اللتين كتبتا الشعر بالفرنسية قبل الرواية. لكنّ الأكيد أن منعطفاً قد قام منذ أكثر من ثلاثة عقود، وربما يتغنون باسم سليم بركات، إلى أن بات للرواية هذا العقد النظيم الذي صاغه الشعراء، مثل أمجد ناصر وعباس بيضون وعبده وازن ومحمد الأشعري وإبراهيم نصرالله، ومن الشاعرات حسبي أن أعدد من الجزائر وحدها: أحلام مستغانمي وربيعة الجلطي وزينب الأعوج، ومن الجيل الجديد في سورية: نادين باخص ونسرين الخوري. وكل ذلك عدا عمن كان للشعر في رواياتهم أثر مؤجج حيناً، ومعوّق أحياناً، ولعل الإشارة إلى إدوار الخراط تكفي. أما «قطعة جحيم لهذه الجنة» فقد تسلل إليها أحياناً، ومن الشعر نُبَذٌ، منها ما تشبه بالحكمة، ومنها ما هو حكمة بجدارة، ومنها ما هو صورة بهية. وقبل أن نتابع ذلك تحسن الإشارة إلى البناء الروائي الذي جاء في اثنتي عشرة يومية، يوحّدها عنوانها «يوميات سورية في زمن الحرب»، وتلي كل منها سردية لها عنوانها. وكما تتوزع كل «يوميات» إلى أيام / فقرات، تتوزع السردية أيضاً إلى فقرات، قد تكون الواحدة منها حواراً أو مونولوغاً أو رسالة أو ما يشبه الخاطرة أو الزاوية الصحفية الرشيقة التي عُرِف بها عادل محمود. تاريخ الولادة هكذا نقرأ في (أول) يوميات، وبتاريخ 30/4/2011: «مدينة درعا كالصراخ في النوم لحظة الكابوس» كما نقرأ أنه «ثمة ملح قديم لجرح جديد» في فضاء درعا أو الجولان، وصولاً إلى البحر الميت. وتلي ذلك سردية (ذاكرة) والتي تحمل تاريخ ولادة الكاتب، وفيها إهداء الرواية «إليّ عندما كنت صغيراً في الخامسة عشرة». وتطفح السيرية هنا بينما التي توقّع لفقراتها هذه العبارة «عندما كنا في الخامسة عشرة». ويرجّح ما سيلي في الرواية أنّ «كنّا» تعني الكاتب السبعيني وذلك الفتى الذي كانه في الخامسة عشرة. وتتوزع اليوميات إثر ذلك بين السيرة السورية منذ 2011 حتى كتابة الرواية في 2017. ومن ثم تحدد سردية «عبقرية العذاب»، وبين السيرة الذاتية التي يؤكدها المتداول من حياة الكاتب، ويطلقها التخييل لتغدو سيرة روائية. في 17/5/2011 تقول ثاني اليوميات في ما ينتسب إلى الزاوية الصحفية الشعرية- وشيخها أدونيس في ما يكتب في جريدة الحياة: «أنت عربي وبالصدفة التناسلية... أنت سني، شيعي، علوي، مسيحي، درزي، إسماعيلي. أما من عدمي واحد في هذا الغبار المؤجج بسنابك الماضي؟». وفي 7/2/2012 تقول ثالث اليوميات إن النظام السوري منذ أربعين سنة: فساد واستبداد، والمعارضة منذ أشهر هي كذلك، أي منذ البداية في آذار 2011. لكنّ اليوميات تسرع إلى القول إن الانتفاضة في ربيع 2011 سلمية، تجري أسْلَحَتُها وأسلَمَتُها. وفي هذا السياق، وبما ينادي السيرية، يتحدث الكاتب عن مشاركته في أول مؤتمر للمعارضة انعقد في أوتيل «سميراميس» في 26/6/2011. ويعلن الكاتب هجسه آنئذٍ بأن النظام سيدافع عن نفسه حتى آخر طلقة، مما يؤكده درس الثمانينات في القرن الماضي. في الذكرى الأولى للزلزال- أي في 17/3/2012- نقرأ تحت عنوان «عبقرية العذاب» أن النظام سمّى: سورية الحديثة، لكن الأنقاض هي هوية سورية المعاصرة. وتحت «ضحايا، غنائم، سبايا» يكتب أنه منذ صيف 2011 صامت ومتشائم. ويتحدث عن ملايين الشباب الذين يطالبون بإسقاط النظام، وملايين الشباب من «أولاد النظام» الذين يهتفون «الأسد أو نحرق البلد». ويصف الكاتب المرحلة بحقبة المجازر أمام الكاميرات، ومنها مجزرة قرى ريف اللاذقية التي توّجها المسلحون بسبي 106 سبية، وهي المجزرة التي تردد صداها أيضاً في رواية سومر شحادة «حقول الذرة» ورواية سوسن جميل حسن «قميص الليل». في سادس اليوميات، «دمشق 8 أبواب»، تنتأ وتثقل على الرواية زاوية صحفية عن استقتال المتظاهرين من آذار (مارس) إلى حزيران (يونيو) 2011 على الوصول إلى إحدى ساحتي العباسيين أو الأمويين، مقابل تصدي السلطة بكل قسوة، وملء ساحة الأمويين بأنصارها. ويحضر هنا دفتر المذكرات الذي يسميه الكاتب «دفتر الأزمنة الحديثة»، ويسجّل فيه هذه المرة قصيدة، وفي مرات ما لا نظام له من شذرات أفكار أو أحداث... هوية مكسورة تبدو سردية «هوية مكسورة» في سابع اليوميات، أكثر السرديات حرارةً ومُكْنةً. ويسرد فيها الكاتب ما لاقى على حاجز في دمشق لأن بطاقته الشخصية مكسورة، مما أثار الشبهة بأنه ممن استجابوا لنداء عدنان العرعور إلى كسر الهوية في بداية الزلزال. ولم يُجْدِ الكاتب الإعلان عن مهنته ككاتب إلا مزيداً من الضرب والإهانة، حتى إذا نجا أخيراً، عزم على أن يسافر، وعلى ألا يعود حتى تصبح هذه البلاد آهلة للسكن. وإذا كان سيتراجع عن عزمه، فقد أفاض هنا في ما يخرج عن السرد إلى المقالة حول الهوية. فالديكتاتوريات صانعة حروب، لا محالة، والحرب «في جزء من تجلياتها، على الأقل، تتغذى من تعدد الهويات المعترف بوجودها، بل والتي يجري التفاخر بها، وهو التعدد الذي يؤدي في انفراج الصراعات إلى الاستخدام، فيتمزق البلد على أساس إثني وطائفي وجغرافي، وعندئذٍ تصبح العودة إلى الهويات الصغرى سلاحاً للحماية، ويصبح هذا السلاح أداة جريمة وطنية جرى تحت سطوتها التخلي عن الهويات الكبرى: الوطن، القومية»... توالي اليوميات التالية منهجها في السيرة السورية، بما تنثر من أفكار أو من صور الحرب. ففي سردية «إدارة التوحش»، والتي يعود فيها الكاتب إلى كتاب «مروج الذهب»، تكون الحرب قد عودتنا في سنة 2014 على مشرحة الذبح والتقطيع. وقد تعنونت هذه السردية بعنوان كتاب الداعشي أبو بكر ناجي، كما عرضت لائحة أسعار السبايا في عاصمة الخلافة: الرقة. تشتبك السيرة السورية بالسيرة الذاتية في اليوميات كلها. وأول ذلك يأتي في «سردية العازب بلا هوادة»، لتكشف عن أن الكاتب السبعيني عازب، وأنه عندما كان في الأربعين، كانت له قصة حب فاشلة مع لونا الصحافية الشاعرة، فقرر ألا يتزوج. وبعد دهر، وفي يوميات بعنوان «لونا أخرى.. مرة أخرى»، تأتي قصة حب جديدة، وتقدح شرارتها في مدينة اللاذقية التي صارت خائفة جرّاء ظهور ما تسميه الرواية إرهاباً عشوائياً في البداية. تجمع اللاذقية في مصادفة بين الكاتب وشابة (لونا)، محجبة من دير الزور وتسخر من الحب في زمن الكوليرا المسلحة. وفي سادس اليوميات يقع العجوز في هوى الشابة التي تختفي بعد حين، ولا ترد على رسائل العاشق، حتى إذا التقيا ثانية، تعلن حبها، فيلاقي الإعلان بمأساوية: «أنا رجل راحل وأنت فتاة قادمة». ولعلّ للمرء أن يتساءل عن نفاق هذه المأساوية، ما دام العجوز هو من ظل يغزل شباكه حتى أوقع الشابة التي حطم المسلحون غيتار والدها على رأسه. في عشق السبعيني تترجّع النُبَذُ / الحِكَم، كقوله: «الشيخوخة لا تحميك من الحب، ولكن الحب يحميك من الشيخوخة». وسيكتب العاشق للونا رسالة يحدثها فيها عن المبدعين الذين وضعتهم الشيخوخة في مأزق عاطفي مثل نابوكوف وبيكاسو. وفجأة تختفي لونا ثانيةً، لكنه الخطف حقاً هذه المرة كما تسرد سردية «زمن الخطف» في عاشر اليوميات (2014). في صيف السنة الثالثة لخطفها- صيف 2017- تقع المعجزة، وتعود لونا، ويفاجئ الراوي بصوت طفل أتت به. ومن الحديث عن جرائم السبي، وبما يشي بالاغتصاب وبسبعة آباء للطفل، تنعطف الرواية إلى سردية محبوكة بحرفية عالية، ونبض إنساني حار وموجع. وهذا ما سيلي في السردية التالية الأخيرة «زمن النور» لتكون للرواية خاتمة ينتصر فيها السرد البديع على ما نتأ أكثر من مرة من مغالبة الشعر له في مواطن سابقة من الرواية. أب على رورق يقترح الراوي تسجيل الطفل باسمه وباسم لونا كزوجين. وبسخرية ومرارة صار السبعيني «العازب» أباً على الورق لولد ملتبس الهوية. وقد اختار له الراوي اسم والده- كامل معروف- وأقام ولونا احتفالاً بالتسجيل تتوّج باكتشافه عذرية لونا. هي إذن لم تغتصب، وليس مهماً أن يأتي ذلك على عجل وبأسلوب غير مقنع. في خاتمة الرواية، يختفي الراوي الذي يظهر اسمه لأول مرة: وائل، بينما لونا حامل منه في الشهر التاسع. وتلعب لونا هذه المرة لعبة الميتارواية. فهي التي تروي هذه الخاتمة معلنة أن الرواية تخص مأساتهما، هي ووائل. والرواية محاولة لإشاعة الروح المضيئة للسوريين. وتعد لونا بأن وائل عندما سيعود، سيجد كتابه (الرواية) مطبوعاً، وسيكون ابنه في حضنه مع الطفل المجهول الأب (كامل معروف). وبذلك ترسم الرواية أفقاً جارحاً يملؤه طفلان من أبوين متعاديين، كما يفترض، لكنّ قدرهما أن يعيشا معاً. تتدافر المتناصات في هذه الرواية من أغانٍ وقصائد ونثريات، منها ما يأتي عتبة ومنها ما يتخلل السرد، ومنها ما هو بالغ الطول (نوتاهارا وبريخت وسعيد عقل والغزالي والشافعي ووديع الصافي وأم كلثوم وفيروز ومحمود درويش...). وفي الرواية أيضاً «تنظير» لرواية الحرب، مؤداه أنها رواية عن الموت، وعن إمكان الحياة بين قنبلتين في دمشق التي بلا ماء منذ شهر. بل أنها رواية الحدث، وأشبه بفتح مقبرة للتأكد من موت الأموات. كما أن حكاية الحرب لا تتم إلا بفتح جراحاتها. ولقد حاولت «قطعة جحيم لهذه الجنة» أن تكون كل ذلك، متكئة على الشعر، فعوّقها حيناً، وزادها عافية وألقاً أحياناً.