الحديث عن الهوية الحضارية وقيمها الإنسانية، أصبح حديثاً بلا معنى وكلاماً من غير أن نقول شيئاً، وبضاعة المترفين من أصحاب التخصصات الإنسانية المثالية كما يرى هذا الادعاء مثقفو الصحافة وصحفيو الثقافة، وهذا كله غير صحيح، وتسطيح للحاجة، الماسة أكثر مما مضى لإعادة رسم خرائط طرق المجتمعات الإسلامية لتنجو من الذوبان في وعاء حضارات قاسية وناعمة في آنٍ، وتؤمن بالتعددية والتعاون بين البشر ظاهرياً ومصلحياً إذا كانت لها زمام القيادة، وتحاربها بأسماءٍ شتى لا يمكن أحداً ان يخالفها إلا أن يكون عدواً أو إرهابياً، والأهم في هذا الموضوع هو أن نحاول قراءة هذه التحولات الحضارية وتأثيراتها على مستقبلنا القادم، من خلال المقدمات التالية: أولاً: الحضارات ذهنيات جماعية، تُملي المواقف وتُوجِّه الاختيارات وتعمّق الأفكار الماقبلية وتغير وجهة حركات المجتمع، وهي أمر حضاري بأتم معنى الكلمة، إي أن لها حِملاً موروثاً تتناقله الأجيال، كعدوى كبيرة تتناقلها مجتمعات وتؤمن بها دون اكتراث بالضغوط والمصالح السياسية. (انظر: قواعد لغة الحضارات لفرنان بروديل، ترجمة الهادي التيمومي، طبعة المنظمة العربية للترجمة 2009م ص 75). هذه الحالة من التواصل القيمي والثقافي العابر للحدود يعني أن المتغيرات الحضارية تسري كالحرارة في جسد المجتمعات، وبالتالي قد تشعر بانسياب جديد لمفاهيم تهز أماكن القوة بصمت ونعومة، وأحياناً تكون لتلك القيم بُنى سيكيولوجية على حدّ تعبير المؤرخ الفرنسي ألفونس دوبران، تلهب الحماس والإلهام العاطفي في نفوس المؤمنين بها بغض النظر عن مستوى القناعة بها، ومن هنا نشعر بأن تلك الذهنيات الجماعية (ثقافات، عادات، معتقدات) لأي حضارة هي الهوية والمرجعية والانتماء الذي لا ينفك عنه الإنسان، والتحول عنه بطيء جداً، ويصعب في حالة انسجام المجتمع مع تلك الموروثات الحضارية أن يتنازل عنها تحت أي تهديد كان، فسكان آسيا الوسطى بعد الثورة البلشفية 1917م أجبروا على ترك كل موروث حضاري لهم بآلات قمع رهيبة ومع ذلك عادوا كما كانوا بعد مرور أكثر من سبعين عام دون أن تنقض تلك الموروثات أو يتحلل انتماؤهم لها. ثانياً: التحول الحضاري طبيعته البطء الشديد، وهذا ما يجعل الحضارات ذات ثبات واستقرار، ولكنه قد يزداد سرعة بكثرة معطيات التغيير داخل المجتمع، والتي عادة لا تلامس صلب الموروثات الحضارية لدى الأفراد، ولكنها تداعب وتلامس رغباتهم الغريزية التي يتهافت عليها الفرد العادي بلهفة وإدمان، فكلما كانت فترات حدوث التغيرات في مسالك الحياة وأنظمتها وأدواتها المادية الرغبوية متقاربة ومتكاثرة، كلما كانت حركة التحول أكثر نشاطاً وحيوية، ولهذا نلحظ في الزمان القديم لا تختلف الحياة خلال المائة عام في أساليبها ومعطياتها ومخترعاتها المادية، لذا تلزم السكون لضعف المتغير، بينما في عصرنا الحاضر تجد انقلابات ظاهرة في التقنيات والنظم وكثرة المكتشفات وتطور أساليب الحياة بصور مذهلة ومشوّقة، ما يعني أن القابلية للتحول الحضاري تزداد، وتبقى عقبة واحدة، هي الإيمان بالمبادئ الأساسية للحضارة، والتي تمنع حدوث أي تغير جذري في الحضارة، ويمكن أن نحدد عاملين قد يكونان ذا أثرٍ في سرعة أو بطء التحول الجذري الحضاري : أ- العامل الزمني، ويقصد به بلوغ الحضارة نهاية دورتها العمرية، في حال وافقنا ابن خلدون في قوله بأعمار الدول، وقس عليها وزدّ عمراً أطول للحياة المتوقعة لحضارة من الحضارات. يقول رحمه الله : «الفصل الرابع عشر: في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص»، ثم قال: «وأما أعمار الدول أيضاً وإن كانت تختلف، إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال. والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته» (مقدمة ابن خلدون 1/85). وهذا التحديد تقريبي، ويختلف وفق طبائع وظروف المجتمعات، ولكن العمر الحضاري حتمي، كما في قوله تعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ» (سورة يونس 49). يقول الإمام الطبري في معناها: «لكل قوم ميقاتٌ لانقضاء مدتهم وأجلهم، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم (لا يستأخرون) عنه (ساعة)، فيمهلون ويؤخرون، (ولا يستقدمون) قبل ذلك، لأن الله قضى ألا يتقدم ذلك قبل الحين الذي قدَّره وقضاه» ( انظر تفسير الطبري، تحقيق أحمد شاكر، طبعة الرسالة 2000م، 15/100). ب- العامل السُنني، ويعني مجموعة الأسباب التي وضعها الله تعالى في الأرض كقوانين ونواميس تحكم الطبيعة والحياة، وتكررت وتواتر وقوعها مرتبطة بأسبابها الدافعة أو المانعة، وهذه تحتاج مزيد بيان ربما أُفصّل فيه في مقالات قادمة بإذن الله. ولكنها في تقديري الشخصي لا تخرج عن أمرين: التماهي في الظلم، والتباهي بالفساد. ج- أن المبادئ والقيم الحضارية تمثل هوية المجتمعات التي لا يمكن لقوة أن تجبرهم على التخلي عنها، ولكن ماذا لو حدث ضعفٌ في الإيمان بها، وتخللها الشك والتفكيك الفلسفي، وبدأت المظاهر الخارجية في العادات والأساليب تتغير وتغري بالتحول الضمني عن تلك المبادئ والقيم، حينها يظهر (الإله الخفي) كما سماه المفكر والناقد الفرنسي لوسيان غولدمان (انظر: الكتاب الإله الخفي، ترجمة الدكتورة زبيدة القاضي، من مطبوعات الهيئة العامة السورية للكتاب) ويقصد به حاملو راية الحضارة عندما يتغيرون ويرفعون رايات أخرى، فإن الحضارة كما قال: تتغير وتتحرك بدورها، أي أن فكرة الرؤية التي يعبر عنها غولدمان في هذا السياق بالتحديد؛ كانت التعبير النفساني عن العلاقة بين بعض المجموعات الإنسانية ووسطها الاجتماعي والطبيعي، وان هناك تأثيراً متبادلاً ينتج الوعي والدافعية لعلاقة منتجة من التغيير الاجتماعي. وفي التاريخ الإنساني، كان لتأثير القرن التاسع عشر دور كبير على حضارات عالمية كبرى، فمن خلال ثورة الصناعة وقوتها وجبروتها الأخّاذ، جعل الكثير من المجتمعات تتهافت نحو الحصول عليها كأدوات مجردة، ولكن كان في أوروبا وقتها مع ثورتها الصناعية ثورة علمية وفلسفية أخرى انتقلت مع المنتج الصناعي في حزمة واحدة، كانت قادرة على تغير الأنماط الهشّة من المبادئ والقيم الحضارية في بعض المجتمعات البشرية. وانقل كلاماً للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون عن دور المبادئ في صناعة التحولات الحضارية الكبرى: «وليست كثرة المبادئ وجِدّتها هما اللتان تقفان النظر عند البحث في تطور الأمم، بل الذي يقف النظر هو قلة تلك المبادئ المتناهية وبطء تحولاتها والسلطان الذي تزاوله. وتنشأ الحضارات عن بعض المبادئ الأساسية، وإذا ما أقبلت هذه المبادئ على التحول غدت الحضارات مقضيّاً عليها بالتحول. إذًا، ترى أن الذي يقود العالم هو المبادئ، ومن ثم أولئك الذين يتقمصونها وينشرونها. والنصر يُكتب لتلك المبادئ عندما تجد من المهووسين والمؤمنين من يُصغون إليها، ولا كبيرَ أهمية في أن تكون تلك المبادئ صحيحة أو فاسدة، فالتاريخ قد أثبت لنا أن أشد المبادئ وهماً هي التي فتنت الناس أحسن من سواها، على الدوام، فمثّلت أهم الأدوار. وباسم أكثر الأوهام خدعاً قُلب العالم وانهارت حتى الآن حضارات كان يلوح خلودها وقامت حضارات أخرى» (انظر: كتاب السنن النفسية لتطور الأمم، لمؤلفه غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، طبعة دار المعارف 1957، ص 145-148). د- أن التحول الحضاري قد يكون تلفيقياً شكلياً، ويسرع حدوثه في البيئات المقلِّدة والناقلة وليس في البيئات الفاحصة والناقدة، والنقل الأعمى والنمذجة الكلية لحضارات أخرى مختلفة شكلاً ومضموناً، يجعل هذه الحضارة في مهب الريح، كما أسلفت في الفقرة السابقة، ولكن البعض قد يدّعي بقاء مضمون الهوية والثقافة، بينما الشكل والمظاهر العامة تحكم كل جوانب التغيير المجتمعي، من اللغة إلى الثقافة إلى الإعلام إلى الاقتصاد، وهذه أكذوبة خادعة تصلح للدعاية والتجارة الزائفة،لأن الناقل لحضارة غيره بلا بصيرة وضع مجتمعه بقصد، وبشكل مفكّك ومهمّش وبعيداً من جذوره، في وعاء حضاري أكبر منه ومختلف عنه، وغالباً ما يذوب فيه المجتمع الصغير وينغمر. كما أن هناك إشكالاً آخر على المستوى الفردي وردة فعلهم من تلك التحولات، حيث تأتي في كثير من الأحيان أسبق من وعي الناس بها، فينتج عن مجال التأثير من هذا التحول فئتان في المجتمع، الفئة الهامشية التي تروقها الأشكال والظواهر وغالباً ما تذوب بسرعة في ذاك المعطى الحضاري الجديد الفاتن، والفئة الأخرى التي لم تتواكب مع قبول هذه السرعة من التغيير المجتمعي فتعمد إلى الانكفاء أو المواجهة أو الهجرة ،لأجل البُعد عن واقع التحول الجديد، والانكفاء عن المشاركة في هذه التحولات لا يُبنى عليه أثر، لأن الزمان كفيل باندماجهم الكامل في الجديد إذا كان موقفهم الانكفائي خوفاً من الجديد دون شيء آخر، ولكن المهم في النظر يأتي ممن يحاول الوقوف ضد هذا الجديد الذي يعتبره مهدداً لثقافته ومعتقداته، وبالتالي يعيش عدم الاستقرار معه، ويغالب كل من يريد تهميش قيمه، وقد يربطها مع معتقداته الجوهرية، وهذا هو الإنسان الطبيعي، ما لم تتحول ممانعته إلى تطرف حاد يصادم الجميع بلا عدل أو حكمة. وللأسف أن هذا النوع من التنافس نحو النهضة العاجلة، كما هو حال بعض المجتمعات النفطية، رائج ومغر للبروز وحرق المراحل، باعتماد طريقة النقل والتقليد لحضارات سابقة وعريقة، من خلال نقل نماذج الأسواق والمدن وحتى الجامعات والمتاحف، التي تنتقل بكليتها وثقافتها وأنماطها في الحياة، وليس فقط بهياكلها الجدرانية، وهذا ما يغير هوية كل المجتمع ويجعله مسخاً ملفقاً من تكوينات ثقافية وتاريخية مختلفة المصدر والمنشأ. ويبقى هذا النوع من التحول الحضاري التقمصي أشد التحولات هشاشة وضعفاً في البناء والصمود عند الأزمات والمتغيرات المفاجئة. ه- إن أهم التحولات الحضارية حصلت ووقعت حول الأنهار العظيمة والبحار الكبرى، فكما كانت تلك المياة سبباً للنشأة من دافع التحدي والاستجابة، كما يقرر أرنولد توينبي (انظركتابه: مختصر دراسة التاريخ، ترجمة محمد فؤاد شبل، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1960م)، حيث تحدي الطبيعة يكوّن في الإنسان الرغبة في الاستجابة بالبحث عن مقومات بقائه واستقراره، وكما قدمت حضارات المياة القوة والنهوض، أدت كذلك للتبادل المنفعي، وأحياناً الطمع المصلحي، ما جعل الحضارات تتوالى على بلاد الرافدين، وحول النهر الأصفر في الصين، والنيل في مصر، وفي جوانب البحر الأبيض المتوسط وعلى حواف المحيط الهندي، واليوم تزداد الأطماع وتتطور أدوات الاستحواذ والهيمنة حول منابع النفط والغاز، وعلى ضفاف وديان التقنية والاتصالات، ما يقدّم صورة أخرى للتحولات الحضارية على غرار ما حدث في القرون الماضية، وهذا مرتهن بطبيعة الصراع حول مغانم تلك الثروات، هل سيكون بالقوة الحديدية الصلبة أو بالقوة الحريرية الناعمة؟ ولكن قطعاً أن سنة الحياة والطبيعة أن يبقى الصراع فاعلاً حول تلك المغانم التي تعتبر شريان حياة المجتمعات، كما كان فاعلاً وبقوة عند اكتشافها، ما قد يؤدي إلى شكل من أشكال التحولات المجتمعية تقودها الحضارات القوية الغالبة (انظر: كتاب قواعد لغة الحضارات لفرنان بروديل ص64). يقول غوستاف لوبون في هذا الصدد مؤكداً على هذا المبدأ الحضاري في تحولات الأمم: «وسيظل التهديد قائماً زمناً طويلاً لا ريب، وستكرَّر الحروب بين الأمم ذات الروح. والأماني والاحتياجات المتباينة حتماً، وستعقب المنافسات الاقتصادية المنازعات الحربية في المستقبل مناوبة» (انظر: كتاب السنن النفسية في تطور الأمم ص 20). وعالمنا اليوم يموج بتحولات عميقة تحت السطح، وفوقه أيضاً، ولكنها لا تصيبنا بالدهشة والصدمة العنيفة، لأن نعومتها وشغفنا بمنتجاتها العصرية يحولان بيننا وبين إدراك ما تموج به الأرض تحتنا، أو أن نعي حركة التغيير الدؤوب التي تنقلنا إلى مجال من العيش جديد، ما يؤكد حاجتنا للاستعداد بدلاً من الانقياد الأعمى، كما تتطلب هذه المرحلة قدراً من المحافظة على موروثاتنا وهويتنا وعمقنا الفكري وثوابتنا الدينية، نحملها معنا دون تفريط، كالكنوز الثمينة التي تجعل منا أصحاب قدر وقيمة.