حين يحلّ الربيع والصيف، يتنفّس السوريون بغالبيتهم الصعداء لخلاصهم من برد الشتاء وعوز المازوت من جهة، ومن جهة أخرى لاتساع بساط الحياة لأسر كبيرة وكثيرة تقطن حيّزاً صغيراً في شقة أو بيت واحد، حيث يخرج الأطفال إلى الشوارع أو العمل، فيكون هناك متنفّس أو مجال للكبار كي يقضوا بعض الوقت بلا صخب أو ضجيج أو عيون متطفّلة راصدة كل حركة أو نَفَسْ، والأهم، هبوط أسعار معظم الخضر والبعض القليل جداً من الفواكه، بما يُمكّن هذه الغالبية من تأمين أدنى حاجاتها الغذائية بمبالغ مقبولة إلى حد ما. لكن، ما إن يحلّ فصل الخريف، ويحين موعد تهيئة مؤونة الشتاء المتنوّعة، حتى تعود أسعارها إلى الارتفاع مجدداً وفي شكل خرافي أحياناً، ما يجعل إمكان تحضير المؤونة ولو بحدودها الدنيا عسيراً وشاقاً وربما معدوماً لدى الشرائح الأكثر فقراً. وبنظرة سريعة على السوق، نجد أن الأسعار مُلتهبة لمستويات يتعذّر على الناس الاقتراب من لظاها الذي وصل إلى 300 - 500 في المئة عن العام الماضي لبعض المواد، خصوصاً الأساسية منها مثل زيت الزيتون والجوز والفليلفة والباذنجان وسواه من خضار تدخل في عملية التموين الشتائي، إضافة إلى بقية الحبوب والبقوليات التي حلّقت أسعارها وتضاعفت قياساً إلى ما كانت عليه في العام الماضي، ومعلوم أن الحبوب والبقوليات هي المواد الأكثر استهلاكاً، لا سيما عند الشرائح الفقيرة. ولا يقف الأمر عند هذه الحال التي يصادف توقيتها مع الاستعداد لاستقبال العام الدراسي ومستلزماته (لباس، حقائب وأحذية، قرطاسية...) التي لا تزال أسعارها تفوق كل منطق ومعقول حتى في الصالات الحكومية التي تُعلن أنها تبيع بأسعار منافسة، لكنها للأسف منافسة لمصلحة التجار وباعة المفرّق منهم، حيث يحتاج التلميذ الواحد إلى نحو 30 ألف ليرة سورية كي يتمكّن من دخول المدرسة، فكيف سيكون وضع الأسرة مع وجود أكثر من تلميذ مدرسة أو طالب جامعة فيها. ولعلّ الكابوس الأكثر رعباً للعامّة هو تأمين وقود التدفئة من مازوت أو حطب وما شابه، على رغم أن الحكومة أعلنت عن توزيع مازوت التدفئة بمعدّل 200 ليتر للأسرة، وكانت حددت مراكز عدد من الأحياء التي ستوزّع فيها هذه المادة الحيوية مباشرة إلى المواطنين، ما سيُكلفهم مبالغ لا يتوافر منها ما يساعدهم في الحصول على مستحقاتهم حتى لو وجِدَتْ، بسبب كل ما ذُكِر أعلاه، وأن كلفة تعبئة 100 ليتر فقط تُقدّر ب20 ألف ليرة سورية حسب السعر الحكومي، ويُضاف إليها هذا العام حلول عيد الأضحى بكل متطلبات الفرح والمودة الاجتماعية إن وجِدَتْ. وبهذا نُدرك حقيقة الكوابيس التي تؤرق حياة الغالبية العظمى من الناس، خصوصاً أولئك الذين لا يعملون ضمن القطاعات الحكومية، أو الذين يعملون بأجر يومي لا يُغطي نفقات الذهاب والإياب من العمل وإليه، والذي تتركّز معظم شركاته خارج حدود المدن. أبو أحمد عامل بناء لدى إحدى الجمعيات السكنية، يُصارحنا قائلاً: «لا أدري كيف يمكنني تأمين كل هذه المستلزمات مع وجود خمسة أولاد ثلاثة منهم في المدارس، والبيت بالإيجار. أتمنّى لو لم يأتِ وقت المونة ولا المدرسة ولا حتى العيد، لأنني وأسرتي بدل أن نستعد لكل هذه المناسبات بفرح ولو كان بسيطاً، نُمضي وقتنا بالحسرة والتفتيش عن سبيل يساعدنا على بعض أعبائنا، لا سيما المدرسية منها». وحين سألنا عدنان، صاحب محل قرطاسية ومستلزمات مدرسية، عن سبب غلاء الأسعار، وعدم الشعور بانعدام قدرة الأهل على تأمين مستلزمات أبنائهم للعام الدراسي، أجاب: «نحن باعة المفرّق لا ذنب لنا في كل هذا، لأن تُجّار الجملة من جهة، وأصحاب معامل الخياطة هم من يحددون الأسعار لنا قبل أن ينظروا إلى المستهلك... ومع أننا بائعون، إلّا أننا نشعر بفداحة الأسعار والغلاء، لأنه لدينا أولاد في المدارس يستحوذون ليس فقط على مربح البضاعة، بل وعلى قسم لا بأس به من رأسمالها». هالة موظفة حكومية ولديها أبناء في المدارس والجامعات، قالت أنها تعتمد مبدأ الجمعيات المالية مع الزملاء والأهل والأصدقاء لتتمكّن فقط من تأمين المستلزمات المدرسية الأساسية والضرورية جداً لأبنائها، أمّا تهيئة المؤونة فتتم على مراحل يومية تقريباً ومن خضار نهاية النهار باعتبارها تصبح بنصف القيمة أو برأسمالها كما يقول الباعة، كذلك لأنها لا تستطيع تأمينها دفعة واحدة من خضار طازجة أسعارها مرتفعة. أمّا بالنسبة لتأمين وقود التدفئة، فأشارت إلى أنها ستنتظر دورها الذي تحدده لجان الأحياء بالسعر الحكومي، وإلّا ستعتمد على الكهرباء التي تدعو الله أن ترأف وزارة الطاقة بهم وتقلل ساعات التقنين ما أمكن في الشتاء. ربا، ريم، حسن، آلاء ووسيم، أطفال ينتظرون العيد بكل ما يحمله لهم من فرح وعيدية يشترون بها ما لا يستطيع الآباء شراءه لهم، أجمعوا ببراءة على أن أهلهم يخافون مجيء العيد في ظل ضرورة تأمين الدفاتر والكتب للمدرسة، وكذلك جزء من المؤونة، وأنهم - الأطفال - غير منزعجين إلّا «على البابا الذي بالكاد يؤمّن مصروف المدرسة» وهذا هو الأهم في رأيهم. ثريا تعيش على الراتب التقاعدي لزوجها المتوفّى، والذي لا يكاد يفي بسعر الخبز خلال الشهر، لولا أن أولادها يعملون في مهن مختلفة ويساهمون في تأمين مصروف البيت الذي يستهلك إيجاره راتب أحدهم. وهي فقدت نعمة التدفئة على المازوت منذ أن غادرت بلدتها الواقعة ضمن المناطق الساخنة لانعدام إمكان حصولها على مستحقاتها من هذه المادة، أو لعدم قدرتها إن وجدت على تأمين ثمنها. لذا، تلوذ وأولادها بالكهرباء إن توافر التيار، أو بالأغطية. هي ذي حال غالبية السوريين الذين لا يرون في قدوم الشتاء إلّا كابوساً وشؤماً بدل أن يكون خيراً، لأن الاستعداد له شبه معدوم سواء على مستوى المؤونة أو التدفئة أو ما شابه في ظل رواتب وأجور هزيلة لا تتعدى ال40 ألف ليرة للموظفين، وما يُقارب ثلث هذا المبلغ لعمال القطاع الخاص ونصفه لعمال الأجرة.