خلال أيام الثورة المصرية ترددت يومياً على ميدان التحرير، أتجول لساعات بين المعتصمين والزائرين، أتأمل المشهد الأسطوري وأختزنه في وجداني، وأفكر في ما يدور حولي من صناعة غير مسبوقة للتاريخ. شباب وشيوخ، محجبات ومنقبات وسافرات، مواطنون من كل الطبقات والفئات والمهن، فلاحون وعمال، أميّون ومتعلمون ونجوم مجتمع. الكل يمارس الثورة والفرح، الفرح بقدرتهم على كسر الخوف واستعادة القدرة على الفعل والحلم والأمل. واستمعت إلى نقاشات عميقة وواعية بين مجموعات منتشرة في الميدان. كل الأفكار مطروحة وبتسامح فكري وسياسي لم يسبق أن عشته في قاهرة المعز. مجموعات النقاش وإذاعة الثورة والتظاهرات الصاخبة تطالب بإسقاط النظام ورحيل الرئيس والحرية والعدالة الاجتماعية، ولم تطرح أي أفكار أو شعارات عن الحل الإسلامي أو إلغاء «كمب ديفيد» أو تطالب بالوحدة العربية. ربما كانت هذه الأفكار الأيديولوجية والأحلام الكبرى في خلفية كثير من المتحاورين والمعتصمين، لكن النقاش والحوار الحر والموقف المعلن تركزت حول إسقاط النظام والحلم بنظام جديد يضمن حرية المصريين وكرامتهم من دون تمييز. في هذا المشهد الأسطوري المليوني اختفت فزاعات التآمر الخارجي و «الإخوان المسلمين» والفتنة الطائفية والفوضى والجريمة والتحرش والفصل بين الرجل والمرأة... الجميع مواطنون متساوون في جمهورية التحرير، والنقاش العام حر ومن دون قيود، وبدأت استرجع مقولات هابرماس عن المجال العام وكيف يتشكل وكيف يعمل. مجال عام حقيقي ملموس تشكلت ملامحه الأولى في المجتمعات الافتراضية التي صنعها شباب الثورة في «الفايسبوك» و «تويتر» و «اليوتيوب». لكن القدرة على الانتقال من المجال العام الافتراضي إلى الواقع، والتحرك مع الجماهير، هما أحد أهم انجازات ثورة 25 يناير، وإحدى أهم آليات عملها وتطويرها، وربما الحفاظ عليها حتى تستكمل تحقيق أهدافها كثورة شاملة. وأعتقد أن مفهومي المجتمع الشبكي والذات الفاعلة في عصر المعلومات وفق ما طرحه مانويل كاستلز قد يفسران إلى حد كبير خصوصية الثورة المصرية، إذ تقوم الشبكات بإنتاج وتداول القوة والتجربة وبناء ثقافة افتراضية تتجاوز الزمان والمكان، كما تتجاوز كثيراً من مكونات الصراع الطبقي وتفتح المجال لدور أكبر للحركات الاجتماعية للشباب والنساء وحركات السلام والحفاظ على البيئة. في هذا السياق تطرح بقوة مفاهيم مواطن الشبكة، والمجال العام الرقمي أو الفعل السياسي الرقمي، والمشاركة الرقمية. من هنا أدعو القارئ أن يشاركني التفكير في القضايا الآتية: 1- إن ثورة 25 يناير تبدو من المنظور الشبكي نقلة نوعية غير مسبوقة عالمياً على طريق التشبيك الاجتماعي والفعل السياسي الافتراضي، ثم الانتقال الناجح والسريع إلى الواقع الفعلي، بما يعني تلاشي الفروق بين الافتراضي والواقعي. فعبر مجموعات أشهرها: كلنا خالد سعيد، و6 أبريل، وحملة ترشيح البرادعي، و25 يناير، تشكلت حركة اجتماعية شبابية ضمت مئات الألوف، وتحالفت مع حركات «كفاية» وشباب حزب «الغد» و «الإخوان» و «الكرامة». وعلى رغم ما بين هذه الحركات من اختلافات أيديولوجية وسياسية، إلا أنها نجحت في الانتقال من عالم الشبكة الافتراضي إلى أرض الواقع، وشكلت قاطرة سحبت معها جماهير واسعة ومن مختلف الطبقات لتصنع معاً أكبر ثورة شعبية في تاريخ مصر الحديث، اعتمدت على التظاهر السلمي المتواصل وبالملايين، مع الاعتصام لأكثر من أسبوعين في ميدان التحرير وحول مقرات الدولة في القاهرة والأقاليم. 2- استخدمت غالبية الثورات الشعبية والانتفاضات وسائل الاتصال الجديدة والانترنت كما حدث في الفيليبين عام 2001، وفي إسبانيا عام 2004 وروسيا البيضاء عام 2006 وفي إيران وتايلاند عام 2006، لكنها لم تحقق النجاح الذي أحرزته الثورة المصرية، فالتجارب السابقة لم تتمكن من استثمار تراكمات الفساد والاستبداد والغضب الشعبي، أي أن الانترنت والواقع الافتراضي لم ينجحا في الحشد وتفعيل المشاركة الجماهيرية الاحتجاجية وتحقيق أهدافها، بينما نجح الشباب المصري في حشد كتلة جماهيرية مليونية في القاهرة والمدن الكبرى (وصلت إلى ثمانية ملايين مواطن في أحد أيام الثورة) تمكنت من تحقيق غالبية أهدافها، وبأقل قدر ممكن من الخسائر المادية والبشرية على رغم عنف قوات الأمن في ضرب المتظاهرين ثم مؤامرة انسحاب الشرطة وإطلاق سراح المساجين والحملات الدعائية. من هنا تبرز فرادة التجربة المصرية وقوتها في سياق التجارب العالمية لاستخدام الواقع الافتراضي والتشبيك في الحشد والمشاركة السياسية. 3- إن تميز الثورة المصرية وفرادتها في استخدام وسائل الاتصال الحديثة والتشبيك الاجتماعي لا يعنيان الرهان بالمطلق على هذه الأدوات، فهي تظل في التحليل الأخير أدوات للثورة بما يعني أنها لا بد من أن تتفاعل مع واقع اجتماعي يعاني مشكلات القهر والاستبداد والفساد والظلم الاجتماعي، أي أنها لا تكفي وحدها وفي معزل عن توافر شروط الثورة، وهنا قد أشير أولاً: إلى أن الانترنت والهاتف الجوال ومواقع التشبيك الاجتماعي، والتي ترتبط بمجتمع المعرفة والقوة الناعمة، أصبحت من أهم أدوات العمل السياسي في القرن الواحد والعشرين، خصوصاً في الدول الشمولية البوليسية التي تلغي المجال العام أو تضيق عليه ولا تسمح بحرية العمل السياسي وتقمع الحريات العامة. ويلاحظ أن الأمن المصري فشل في ملاحقة هذه الأنشطة الجديدة التي لم يعرفها أو يتدرب عليها، فهو قديم ويعتمد على القوة الخشنة، وبالتالي لجأ في خصام مع التاريخ إلى قطع خدمات الهاتف الجوال والانترنت. ثانياً: إن استخدام أدوات الشبكة في العمل السياسي يتطلب جهداً ووقتاً وإمكانات مادية محدودة، لكنه يتطلب وهذا هو الأهم بشراً لديهم رغبة قوية في الانتقال من الواقع الافتراضي إلى الواقع الفعلي، بما يعنيه ذلك من تحمل أعباء الصدام مع أجهزة قمعية. وتقدم التجربة المصرية دروساً مهمة يمكن الاستفادة منها، فقد صنع الشباب المصري عالمه السياسي الافتراضي منذ عام 2004، ثم نجح في تنظيم أول إضراب عام في 6 نيسان (أبريل) عام 2008. ونظموا بعدها الكثير من التظاهرات التي حققت نجاحاً محدوداً وتعرض المئات منهم للاعتقال والملاحقات الأمنية، لكنهم التقوا في أرض الواقع. أي أن 25 كانون الثاني (يناير) سبقته تجارب وتمارين للحشد والتنظيم والتظاهر السلمي والتضحية وتحمل بطش الأمن. 4- إن السمات السابقة للثورة المصرية تقود إلى نتيجة مهمة وهي خطأ مقارنة ثورة 25 يناير بالثورات العالمية أو المصرية التي سبقتها، فالسياق التاريخي والظروف المحلية والإقليمية جد مختلفة، ولا تمكن مقارنة ثورة اعتمدت على الانترنت والواقع الافتراضي ونقله إلى الواقع الفعلي بثورات لم تعرف التطور المذهل في وسائل الاتصال، أو عولمة الإعلام، لذلك لا تصح متابعة مجريات الثورة الحالية في مصر استناداً إلى أحكام أو سياقات تاريخية للثورات السابقة، فنحن في صدد ثورة جديدة سلمية لم تصل الى السلطة، وليست لها هياكل تنظيمية تقليدية ولا زعيم يسيطر عليها، ولا توجد أيديولوجية توجهها كما في الثورات الشيوعية والإيرانية والفرنسية. وقد أشرت في مقالي السابق إلى أن هذه الأمور تشكل تناقضات جديدة وتحديات لم يسبق لثورة شعبية أن واجهتها. فنحن أمام علاقات شبكية جديدة لم نعرفها من قبل أو تجرى دراستها بدقة، وهذه العلاقات تختلف تماماً عن التنظيم الهرمي أو المركزية الديموقراطية في الأحزاب التقليدية أو الراديكالية، والتنظيمات والخلايا العنقودية أو الأسر في التنظيمات الإسلاموية. كذلك، فإن الواقع الافتراضي لا يعترف بوجود طليعة وجماهير أو أمير وجماهير بل الجميع مواطنون على الشبكة لهم الحقوق والواجبات نفسها، والالتزام طوعي ومن دون إجبار مادي أو أيديولوجي. 5- ملامح الجديد والاستثنائي الذي تحمله الثورة المصرية يؤثر بلا شك في قدرتنا على رؤية المستقبل، ويضاعف – ربما لأننا نفكر بطرق قديمة - من الشعور بالمخاطر المحدقة بالثورة، فقد سقط رأس النظام لكن الكثير من هياكله ورموزه باقية وفاعلة. في المقابل لا هياكل تنظيمية للثورة كما تعودنا، ولا أيديولوجية محددة تبشر بملامح النظام الاقتصادي الاجتماعي الجديد بعد الثورة، ولا قيادات واضحة ومتفق عليها. وهناك للأسف محاولات كثيرة من أفراد النخبة التقليدية في مصر للسطو على الثورة أو الوصاية عليها. وأخيراً هناك مخاوف من أن يضمن الجيش الوطني الذي رفض ضرب الثورة وضمن المطالب العادلة للمواطنين، أن يضمن أيضاً بقاء النظام، مع ملاحقة بعض رموز الفساد وإدخال إصلاحات محدودة. أكثر من ذلك هناك من يتخوف من أن يتولى الجيش الحكم ولا يتحول إلى مجرد حارس للدستور وللتحول الديموقراطي في مصر. والحقيقة أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يواجه وضعاً صعباً، لم يتوقعه أو يتهيأ للقيام به، فالتحركات الفئوية المطلبية تجتاح مصر، والثوار غير قانعين بما تحقق، وهناك أزمة ثقة نتيجة ممارسات النظام والفجوات الجيلية، لا سيما أن الحكومة التي شكلها الرئيس مبارك لا تزال قائمة وحالة الطوارئ مستمرة والحزب الوطني والقيادات الإعلامية التي شوهت الثورة ونافقت الرئيس السابق تتصدر المشهد. من هنا لا بد من تغييرات حاسمة وسريعة في أركان النظام ورموزه، قد يكون في مقدمها تشكيل وزارة تصريف أعمال من وجوه جديدة مستقلة عن الحزب الوطني، ولا بد من أن يؤكد الجيش أنه يشرف على المرحلة الانتقالية ولا يديرها. وأنه سيكون مجرد ضامن لعملية التحول الديموقراطي لبناء مصر مدنية وحديثة، وقد يكون من المفيد استلهام بعض مكونات التجربة التركية ودور الجيش فيها. لكن في المقابل لا بد من أن يحافظ الثوار على أدواتهم الافتراضية والفعلية على الحشد والتنظيم بحيث يشكلون مع الجماهير المليونية ضمانة لعدم تراجع الجيش عن دوره كضامن ومشرف من بعيد على عملية التحول الديموقراطي، وهنا يبرز أهم تحديات استمرار الثورة، أقصد القدرة على حشد الملايين – سلاح الثورة المصرية – في تظاهرات سلمية في مواجهة أي تأخير أو خروج عن الدور المطلوب للجيش، خلال المرحلة الانتقالية. لكن السؤال هو: هل يمكن الحفاظ على الطاقة الجماهيرية الثورية للجماهير خلال الأسابيع المقبلة؟ أعتقد أن هذا السؤال الإشكالي هو الذي يحدد مستقبل ثورة مصر، خصوصاً أن معادلة التوازن بين قوة الجيش وبين قوة التظاهرات المليونية هي الضمان الوحيد لتحول ديموقراطي حقيقي يكمل عملية التغيير الثوري في مصر ويصل بها إلى بر الأمان. * كاتب مصري