في جنوب السودان، الدولة الأحدث في العالم، يقترب فريق العمل التلفزيوني الألماني من مجموعة مسلحين من أبناء قبيلة النوير وهم ينشدون بحماسة أغنيات تعبّر كلماتها عن رغبتهم في القتال وحبهم لاقتناء السلاح لمواجهة العدو وتحطيمه، وتُوصف أيضاً مزايا المقاتل الشجاع المدافع عن قبيلته وأهله. على مقربة منهم وقف قائد ميداني بادر الى شرح دور هؤلاء الشباب والمراهقين، قال كوانغ رامبونغ بثقة: «هذه مجموعة من المتطوعين في صفوف «الجيش الأبيض». جاهزون للدفاع وصد أي هجوم تتعرض له قراهم وهم لا يبادرون الى المهاجمة فأولوياتهم رعاية الماشية». اما «العدو» المقصود به هنا كما يوضح الضابط، هم أبناء قبيلة الدينكا، المقربون من حكومة جنوب السودان وأن مهمة مسلحيه المحترفين والذين سينضم اليهم مستقبلاً مقاتلو «الجيش الأبيض» بعد اشتداد عودهم وتعلمهم فنون القتال، مجابهة الجيش التابع للحكومة، التي لم يعد يثقون بها ويعتبرونها العدو الأول لهم. صراع النفوذ على السلطة بين القبيلتين، الدينكا والنوير تأجج منذ إعلان جنوب السودان استقلاله عن الشمال وأخذه شكل حرب أهلية مسلحة، لم تنفع معها تدخلات منظمات دولية لايقافها ولم تسرِ عملياً معاهدات السلام الموقعة بين الطرفين، لأن الواقع كما يظهر في برنامج «جنوب السودان... حرب، جوع ومتمردون»، يؤكد استمرار القتال وتوسعه الى مناطق شاسعة من البلاد ومن آثاره المباشرة هجرة آلاف الناس من قراهم والعيش في العراء. واحدة من أهداف سياسي النوير وضباطه إبقاء المدنيين في أماكنهم وعدم الابتعاد عنها حتى لا يأتي العدو ويأخذها. تلك الاستراتيجية ثمنها غالٍ لا تنفع كلمات الضابط ووعوده في تخفيفها. فالكلام عن العودة القريبة الى القرى وهزيمة الدينكا لا تزكيها الوقائع، التي حرص البرنامج الألماني المنتج لمصلحة قناة «آرتي» على توثيقها عبر مرافقة طويلة وخطيرة للمدنيين الهاربين من الحرب. بعيداً من خطوط النار يتضور الهاربون منها جوعاً وتفتك بهم الأمراض، حتى المساعدات الإنسانية المقدمة اليهم من منظمات دولية لا تصلهم. ف «العدو» وضع خطة مضادة تهدف الى تهجيرهم من قراهم وحرمانهم من كل مصادر العيش بما فيها حرق مراكز المنظمات الانسانية واتلاف مساعداتها الغذائية. يصور البرنامج بقايا الحريق الذي أتى على خيام منظمة «أوكسفان» الانسانية وهروب سكان قرى «وات» بعد اقتراب مسلحي الدينكا منها وقتلهم أعداداً كبيرة من شبابها وصغارها. حالة الجرحى والأطفال المرضى والجياع من الهاربين مؤلمة، يعجز المتطوعون الصحيون عن معالجتها. ووفق ممرض متجول عالج بعض الحالات المستعجلة فإن الأمراض تفتك بالأطفال، وبسبب الجوع يموت كثيرون منهم، وجراح المصابين تتفاقم سوءاً من دون تدخلات جراحية. ذلك الواقع المؤلم عبر عنه بعض التاركين قراهم وأجبر بدوره قادة المتمردين على القبول بهجره قسم منهم الى إثيوبيا والبقاء بالقرب من حدودها. يرافق الوثائقي التلفزيوني رحلة مجموعة مكونة فقط من النساء والأطفال الى الحدود الأثيوبية الجنوب سودانية، لأن الرجال يمنع عليهم السفر لتكليفهم مهمات قتالية. يُحشر البشر والماشية في باص قديم ينطلق في عتمة الليل برفقة مسلحين مهمتهم حمايته من هجمات محتملة لقبيلة مورلي الموالية للحكومة. قصص قتل مسلحيها للقادمين من مناطق النوير وسبيهم واغتصابهم النساء وسرقتهم الأطفال سبقتهم، لهذا كان الخوف يزداد بين الهاربين كلما اقتبروا منها! في الطريق تضطر امرأة حامل لوضع طفلها على حافة الطريق. عملية التوليد تمت بطريقة بدائية وحتى لا تبقى الأم مع وليدها وحيدة اضطرت الى صعود الباص ثانية رغم تعبها وإنهاكها. من المفارقات المؤلمة أن الوحدات المسلحة التابعة لقبيلتهم اعتادت توقيفهم وطلب منهم مبالغ من المال مقابل السماح لهم بتكملة الرحلة. تذرعوا بعدم وجود قائمة بأسماء الركاب، فأخذت عملية الجرد والتفتيش المفتعلة وقتاً طويلاً وفي النهاية عرف السائق من مسلح شاب أن عليه دفع رشوة للمتمردين وإلا فإنهم سيبقون هنا أياماً! بعد دفعه مبلغاً من المال سمح للباص بالتحرك، لكنه كان يضطر للتوقف ساعات طلباً للمساعدة في إخراج عجلاته الغاطسة في الأوحال والحفر. حال وصولهم الى منطقة قريبة من النهر الفاصل بين الدولتين سمعوا بأخبار هجوم مسلح نفذه مقاتلو قبيلة «مورلي» على مجموعة سبقتهم الى القرية الحدودية. أطباء إحدى المنظمات الدولية قاموا بنقل الجرحى بطائرة هليكوبتر طبية لمعالجتهم في مراكز صحية تابعة لهم فيما قام الواصلون الجدد بدفن الموتى وفي الكنيسة حذرهم مقاتل من نشر أخبار الهجوم ونصحهم بالتزام الصمت «حتى لا يستفيد العدو منها». على النهر وقفت الأم مع رضيعها وقالت له: «ربما سنصل الى الطرف الآخر منه فتنجو من الموت!».