تناولت مسرحية «رحلة ضوء» من إعداد أمل بسيسو وإخراج سيلفيا هايرابديان، ظاهرة لجوء المخرجين إلى استخدام النصوص الأدبية بعد إعدادها، أو تقديمها كما هي في إنشاء النص الدرامي للمسرحية، وذلك تعويضاً عن ندرة النصوص ذات السوية الفنية المطلوبة محلياً وعربياً. ومن هذا الجانب، أفادت المسرحية التي عُرضت أخيراً على مسرح «الأهلية للبنات» في عمّان، من قصيدة لمحمود درويش وأخرى لإيليا أبو ماضي، فقد انطوت رسائلها وثيماتها على إبراز التمايز في عدد من الثنائيات: الخير والشر، النشاط والكسل، الوضوح والغموض، التفاؤل والتشاؤم. وجرى طرح الرسائل والثيمات وفق أسلوب رمزي، وركزت فضاءات العمل في سياق نظام التواصل، إلى إشاعة ملامح من الفكر الوجودي التي تحملهما قصيدتا درويش وماضي. وأبدت الرؤية الإخراجية براعة لافتة عبر مقترحاتها في إنشاء الفضاء الدلالي، لجهة سلاسة دخول الممثلين إلى المسرح وخروجهم منه، من سبعة مواقع: على يمين مقدمة الخشبة ويسارها، وعلى يمين خلفية الخشبة ويسارها، ومن قاعة العرض إلى يمين مقدمة المسرح ويسارها، أما المدخل السابع، فمن عمق المسرح. وبدت الرؤية الإخراجية قادرة في دفع الشخوص، وفق مجموعات تختلف في هواجسها وأمزجتها، إلى الأمام على خشبة المسرح، بشكل أقرب ما يكون إلى «الفوضى المنظمة»، لتحاكي بذلك الحياة العولمية المعاشة، وتؤشر إلى تأثير الثورة التقنية وتطور تكنولوجيا المعلومات في صياغة حياة الفرد. تتحدث الحكاية السطحية عن «المنبتّين عن الحياة اليومية» بحسب حوارات الشخوص، التي وصفتهم بأن «قلوبهم خاوية من الأمل، ونفوسهم لا تدفعهم للعمل»، لعدم اكتشافهم مدى ثرائهم الداخلي. ولجأت معدة النص والمخرجة، إلى إبراز التمايزات بين القيم بدلاً من تطور الأحداث، وذلك لجذب اهتمام المشاهد. وبرزت جماليات الشعر التي طرحها الحوار الدائر بين الممثلين، وفق سياق رمزي لامسَ القدَرية والوجودية، فبوحيٍ من قصيدة درويش «تنسى كأنك لم تكن»، جاء في الحوار بين الممثلين: «تنسى كمصرع طائر، ككنيسة مهجورة، تنسى كحب عابر، وكوردة في الليل... تنسى»، وتَظهر هنا فداحة الفقد المدوّية في أغوار النفس العميقة. ومن الحوارات أيضاً: «أنا للطريق، هناك من سبقت خطاه خطاي، من أملى رؤاه على رؤاي، هناك مَن نثر الكلام على سجيته ليدخل في الحكاية أو يضيء لمن سيأتي بعده أثراً غنائياً وحدسه». أما الحوارات الشعرية التي استلهمت قصيدة «طلاسم» لإيليا أبو ماضي، فقد تمحورت حول الفضاء الوجودي. ومنها: «أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود، هل أنا حر طليق أم أسير في قيود، هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود، أتمنى أنني أدري، ولكن لست أدري، وطريقي، ما طريقي، أطويل أم قصير؟ هل أنا أصعد أم أهبط فيه... وأغور». البناء العميق للعرض المسرحي حثّ المتلقي على العودة إلى الطبيعة، بحثاً عن الصفاء الذهني، وكي لا يكون الإنسان عبداً للنمط الاستهلاكي الذي أفرزته حضارة العصر الرأسمالية، تلك التي تخفي نوازع قيمها في استغلال الآخر، وراء تسليع قيم التكنولوجيا المتقدمة. وقد أضفت المقترحات الإخراجية على الأجواء الوجودية سياقات ساخرة، بفعل أداء شخوص مهرجين، وأخرى مرحة عبر أداء شخوص دمى، كما قُدمت لوحات أدائية صوتية بالنقر على آلات موسيقية إيقاعية، مثل الطبل والدف. وأدت تصاميم الأزياء والأقنعة والماكياج وخيال الظل وإيقاعات الموسيقى المسجّلة دوراً رئيساً في بناء ظهور الشخصيات، وإبراز تمايز كل منها عن البقية، كما أسهمت الإضاءة الساقطة المنتشرة من خلال «سبوتات»، في تقطيع الخشبة إلى فضاءات، وفق مناخ كل لوحة ومشهد. الجمهور بدا المكمِّلَ الأساسي لهذا العرض، عبر تفاعله مع الأحداث، فباستثناء «الحماسة» غير المبررة التي أبداها أصدقاء الطلبة الممثلين، عبر الصراخ والتحية والتصفير بين حين وآخر، كان الجمهور واعياً في تفاعله، ولم يسرف في التصفيق إلا لماماً عند المفاصل الأساسية في العرض، وبخاصة المشهد الأخير الذي انتهى بلوحة راقصة إيقاعية تجسِّد انتصار المتفائلين على المتشائمين. المخرجة سيلفيا هايرابديان قالت ل«الحياة» عن دافعها الخاص للاشتغال على هذا العرض: «في ظل سيطرة التكنولوجيا على عصرنا، أخذتنا الحياة من أنفسنا، وابتعدنا عن الطبيعة مصدر الإلهام والروحانيات، وانقطعنا عن الشعر والفن، فأصبحنا كأننا آلات تحركها الحياة كيفما شاءت... لقد نسينا أن في داخلنا أشياء جميلة تساعدنا على الخلق والإبداع، ففي داخل كل منا فن خاص يجعله بهيّاً جميلاً متفائلاً ومعطاءً، يجدِّد به الحياة».