استقال المفكر جابر عصفور من منصبه كوزير للثقافة في الحكومة المصرية التي أقيلت بعد يوم واحد من استقالته، إثر تنحي الرئيس المصري حسني مبارك تحت ضغوط الثورة الشبابية التي شهدتها مصر. وقال عصفور في حوار أجرته معه «الحياة» قبل يوم واحد من سقوط نظام الرئيس مبارك: «لم أشأ الإعلان عن الأسباب السياسية للاستقالة، واكتفيت بذكر السبب الصحي، لأنني لم أكن أريد إحراج أحد». وأكد عصفور أن استقالته جاءت لرفضه العمل تحت لواء حكومة الحزب الوطني. وحمّل الحزب الذي حكم مصر طوال أكثر من 30 عاماً المسؤولية عن الكثير من الفساد الذي شهده المجتمع المصري. وأشار الى أنه اتخذ قرار الاستقالة بعد أول اجتماع للحكومة، الذي طالب خلاله وزير الإعلام أنس الفقي أعضاءه بأن يكونوا أعضاء في الحزب الوطني. وقال عصفور إن المذبحة التي ارتكبت بحق الشباب في ميدان التحرير دفعته الى حسم موقفه وترك الوزارة، ووصف مرتكبيها ب «أعداء الشعب»، مطالباً بمحاكمة المسؤولين عنها. وأكد مسؤولية كل مسؤول وكاتب مصري عن حال الفوضى التي عاشتها مصر، وقال: «كلنا مسؤولون إما بالصمت أو بالتواطؤ أو على الأقل بقبول الأمر الواقع وليس مناهضته كما فعل الآخرون». واعتذر عصفور لشباب مصر عن الاتهامات التي وجهها اليهم في الفضائيات، معترفاً بأن الصورة التي نقلت اليه في وسائل الإعلام الرسمية «لم تكن واضحة»، وقال: «عندما تبينت نبل دوافع الشباب سارعت الى تصحيح موقفي»، معتبراً أن ما تحقق على أيدي هؤلاء الثوار «أقرب الى معجزة»، ومشيراً إلى أن الثورة الشبابية تبنت «مطالب عادلة» سعت الى تحقيق مطالب الشعب المصري كله. وقال: «اللحظة الراهنة أسقطت خطابات وأوهاماً كثيرة بما فيها خطاب جابر عصفور نفسه الذي عبر في كتابات أخيرة عن يأسه من الشباب ومن قدرتهم على التغيير». وكشف أنه عمل في مناصب قيادية كثيرة داخل الوزارة وطوال أكثر من 18 عاماً من دون أن يكون عضواً في الحزب الحاكم، وقال: «لم أكن عضواً في هذا الحزب وأعلنت مراراً في وسائل إعلام رسمية أن هذا الحزب مسؤول عن تخريب مصر وإفساد الحياة السياسية والقضاء على مبدأ المواطنة. قلت هذا وأنا على مقعد الوزارة، بل وطالبت الرئيس مبارك قبل تنحيه التخلي عن رئاسة الحزب». وأوضح عصفور أن استقالته لم تأت في الوقت الضائع كما أنها ليست «وسيلة للتراجع أو تصحيح الأخطاء»، ولا هي طريقة لترضية الأصدقاء الذين أغضبهم قبول المنصب الوزاري في ذلك الظرف العصيب الذي عاشته مصر. وأضاف: «عندما قبلت الوزارة كنت أعلم أنني سأهاجم بعنف، وأن لحمي سينهشه محترفو الاتهامات الكاذبة»، وأكد أنه لم يستشر أحداً عندما قبل المنصب بسبب «ضيق الوقت»، وقال: «استشرت قلبي فقط». ولم يخف عصفور إعجابه بنموذج مثقف نقدي آخر هو طه حسين عندما قبل الوزارة، وقال: «فكرت في عميد الأدب العربي وأنا أقبل المقعد الوزاري، وأنا أستقيل منه أيضاً؛ فهو ظل ليبرالياً إلى أبعد حد، ولم يتردد في الاختلاف مع السلطة حتى وهو يعمل معها؛ لأن ما قادني إلى المناصب هو ما قاده، أي دافع المصلحة الوطنية». واعترف عصفور بأن الاتصالات التي وردته بعد إعلان الاستقالة كانت أكثر بكثير من تلك التي جاءته عند قبول المنصب، وقال: «كان انزعاج الناس من قبول المنصب مصدر قلق دائم، لم أتخلص منه إلا بعد الاستقالة». وسخر من الذين وصفوا قبوله المنصب بأنه تعبير عن اشتياق طويل لمنصب وزاري، وقال: «لست عبده مشتاق. ولدي ما يكفيني من الشهرة والاحترام والتقدير، وعشت عمري كله محلاً لثقة خصومي قبل أصدقائي». ونفى المدير السابق للمركز القومي للترجمة في مصر أن تكون الأيام العشرة التي قضاها في الحكومة المقالة قد ساهمت في افتقاده الصدقية أمام مثقفي مصر والعالم العربي الذين دان بعضهم قبوله للمنصب، وقال: «ما يعنيني صدقيتي أمام نفسي، لكن الأكيد أن الاستقالة صححت موقفي أمام الكثيرين». وشدد المثقف المصري الحائز أرفع الجوائز النقدية في مصر والعالم العربي على أنه لا يزال ينظر الى نفسه ك «مثقف نقدي مستقل»، لافتاً إلى أنه لم يعمل لدى نظام وإنما عمل موظفاً عاماً لدى الشعب المصري، ولا يندم على ذلك أبداً. وقال: «مفهوم المثقف النقدي لا يتعارض مع أن يتولى الإنسان منصباً، والمهم أن يحافظ على استقلاله ويضع أفعاله ومواقفه موضع المساءلة بحيث يكون قبول المنصب أو رفضه نابعاً من موقف وطني وليست مصلحة شخصية». وعبر صاحب «زمن جميل مضى» عن تقديره للمثقفين العرب الذين تحفظوا عن قبوله المنصب الوزاري، وقال: «كل الكتابات التي انتقدت قبولي المنصب الوزاري جاءت من موقع التقدير لي، وفهمتها في هذه الحدود ولم أقرأها كمقالات عدائية». وضرب مثلاً بمقال الناشر اللبناني حسن ياغي، وقال: «هذا المقال مكتوب بدوافع نبيلة وسبق لصاحبه أن حذرني من قبول منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، لكنه عاد وشكرني بسبب ما لمسه من إنجازات». في المقابل، رأى عصفور أن الكثيرين من منتقديه في مصر جاءت كتاباتهم من موقع آخر، ودافع عن السياسات التي تبناها في المواقع الرسمية التي شغلها، معتبراً أنه عمل بضمير مرتاح، وقال: «من ينتقدون سياساتي لا يرون الصورة الحقيقية؛ لأنهم منحازون إلى مصالهحم الشخصية، ولا أعول كثيراً على آرائهم». وأكد رضاه عن سنوات عمله قائلاً: «ما يهمني راحة ضميري وعملي للمصلحة العامة، وعندما أنظر إلى ما قدمته لمصر أشعر بالفخر، فقد تمكن المجلس الأعلى للثقافة من كسر العزلة العربية التي كانت مفروضة على مصر عقب كامب ديفيد، وعادت مصر مركزاً للثقافة العربية والحوار». وأوضح عصفور أنه لم يتدخل البتة في منح جوائز الدولة لمناصريه أو المساهمة في إقصاء خصومه لدوافع سياسيه أو فكرية، وقال: «المرة الوحيدة التي تدخلت كانت ضد صديق لم يكن من وجهة نظري جديراً بجائزة الدولة التشجيعية في الشعر؛ لأن تقديري كناقد لشعره أنه لم يكن يستحق الجائزة، لكن اللجنة رأت أن إنتاجه جدير بها، وفاز فعلاً. والحمد لله تحسن شعره بعد ذلك وذهب به الى أفق أفضل». ومن جديد دافع جابر عصفور عن قراره بقبول جائزة القذافي للأدب العام الماضي، ورفض الربط بين قرار قبول الجائزة وقبول المنصب الوزاري، مؤكداً أنه ليس «مثقف سلطة» وقال: «لم أندم على قبول جائزة القذافي ولا أزال سعيداً بها، فغالبية جوائز العالم العربي تحمل أسماء الزعماء ومنحت الجائزة من خلال لجنة تحكيم محترمة وضعت حيثيات علمية وقوّمت إنجازي النقدي بنزاهة، وهي حيثيات ليست محل خلاف حتى لدى خصومي، كما أنني لم ألتق القذافي ولم أتسلمها منه شخصياً». ورداً على سؤال حول تقويمه القرار الذي اتخذه الكاتب المصري بهاء طاهر برد جائزة مبارك احتجاجاً على تصرفات نظامه لقمع ثورة الشباب، قال عصفور: «بهاء كاتب متميز ينطلق في كل مواقفه من دوافع وطنية لا شبهة فيها، لكنني مختلف معه لأن مبارك لم يمنحه هذه الجائزة بل المجلس الأعلى للثقافة وهو عضو فيه، عبر آليات لا شبهة سياسية فيها إطلاقاً. فقد نال الجائزة وهو ناشط في حركة «كفاية» المعارضة، لكن المجلس لم يمنح جوائزه أبداً لأسباب سياسية. وبالتالي كان الأجدر ببهاء طاهر أن يرفض الجائزة عندما منحت له. وآنذاك كان سيتساوى مع كاتب آخر متميز هو صنع الله ابراهيم الذي أحترمه على رغم ألمي الشخصي من سلوكه المناور، إلا أنني لا أتردد في كل مناسبة في تأكيد احترامي له، وأتصور أنه في عدم قبوله كان على حق في قياساته السياسية، ولكن تحفظي ارتبط فقط برفض أسلوبه المناور».