تتجه الأنظار الى محادثات آستانة حول سورية في جولتها السادسة، أواخر آب (أغسطس) الجاري (في حال لم يتم تأجيلها بسبب عدم توافق بين الدول الضامنة)، لا سيما بعد عدم تمكن الأطراف في الجولة السابقة من إتمام ملف مناطق «خفض التصعيد» بالكامل. ويسود ترقب بأن تؤدي مبادرة موسكو (مناطق «»خفض التصعيد»») إلى وقف إطلاق نار طويل الأجل وبدء إصلاح سياسي شامل. وبعيداً من طاولة آستانة، توصلت روسيا والولايات المتحدة الأميركية والأردن الى ترتيبات سياسية تتعلق بجنوب سورية، ويتوقع مراقبون أن تشهد محادثات آستانة المقبلة مناقشة جادة مع ممثلي إيران حول هذه الاتفاقات، وتوضيح مدى توافق اتفاقات عمّان والقاهرة، مع ما يبحث على طاولة اجتماعات آستانة. لا يمكن تجاهل ما ذهب اليه الكثير من المراقبين، إلى أن دعوة إيران إلى المشاركة في محادثات آستانة، كانت محاولة من أنقرةوموسكو لدفع طهران الى الوفاء بالتزاماتها، وإلا، فمن الصعب السيطرة على الجماعات التابعة لها، وهو الأمر الذي أكده الرائد ياسر عبدالرحيم من وفد الفصائل الى محادثات آستانة في حديثه ل «الحياة»، من أن كل الوفود الى آستانة كانت دوماً تقول إن دور إيران الالتزام بما سيتم التوصل اليه خلال المحادثات، لذلك كان مفاجئاً لهم عندما تم الاعلان عن دور لها كضامن في مناطق «خفض التصعيد». وظهر الاختلاف (الذي لم يصل حتى اليوم الى مستوى خلاف) بين الجانبين الروسي والإيراني في ثلاثة مواقف، الأول خلال بداية التدخل الروسي في سورية بشكلٍ مباشر قبل قرابة عامين، والذي جعل إيران تتراجع إلى الصف الثاني كحليف صامت للنظام، في حين أخذت موسكو زمام المبادرة، بعد أن فشلت إيران بترجيح كفة النظام خلال سنوات تدخّلها. أما الاختلاف الثاني بين موسكووطهران فظهرَ بعد اتفاق إجلاء المدنيين والمقاتلين من الأحياء الشرقية المحاصرة في مدينة حلب الذي تمَّ أواخر العام الماضي بين الأتراك والروس، لأن إيران كانت ترفض في شكلٍ قطعي أي اتفاق في هذه المنطقة، وتصرّ على عدم السماح لأي أحد بالمغادرة، لأنها كانت تريد أن تنفّذ حلّاً عسكرياً في حلب، وهنا لا بد من الاشارة الى ان اتفاق حلب (الروسي- التركي)، هو الاتفاق الوحيد خلال ست سنوات من الحرب السورية الذي نجح وصمد. الاختلاف الثالث هو الذي ظهر أخيراً خلال انطلاق مفاوضات آستانة، فكانت إيران تريد أن تنتقم وتُبعد واشنطن عن المحادثات، بينما دعت روسيا لاشتراك واشنطن، التي اكتفت بصفة مراقب. وقال ألكسندر لافرينتيف مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية في حديث خاص ل «الحياة»، إن المشكلة سابقاً كانت تكمن في أن المجموعات المعارضة السورية التي كانت تسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي السورية مستبعدة من الحوار، ومن مناقشة العملية السورية، سواء في لوزان أو جنيف وغيرهما من المدن التي شهدت محادثات حول سورية. وأشار لافرينتيف إلى أن النجاحات التي حققناها جاءت بفضل اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، واستطعنا أن نطلق محادثات آستانة التي تقوم بالعمل المباشر مع من يسيطر على الأرض في سورية، ويتحمل المسؤولية عن الناس المسالمين والمدنيين في هذه المناطق. وفي هذا السياق هناك ثلاثة أمور جديدة قدّمتها محادثات آستانة، الأول إنها المرّة الأولى التي تشارك فيها الفصائل العسكرية في شكلٍ مباشر في حوارٍ يهدف إلى حل الملف السوري، وفي ذلك دلالة مهمّة على نتائج المفاوضات، وذلك لأن الفصائل العسكرية المعارضة هي أولاً وأخيراً صاحبة القرار على الأرض، وهي المعنية أكثر بالوضع السوري. والأمر الثاني هو أن وجود العسكريين وقادة الفصائل في آستانة يدل على أن الحوار يتم بين أطراف القرار وأصحاب الكلمة الذين سيجلسون للمّرة الأولى على طاولة واحدة وفي شكلٍ مباشر وجهاً لوجه. أما الأمر الثالث فهو أن المفاوضات ستجري في محفل دولي بعيد عن العواصم الأوروبية وليس كما جرت العادة أن تجرى مفاوضات كهذه في جنيف أو فيينا أو دول أخرى، وهذا الأمر له علاقة بنظرة الجانب الروسي، ورغبة بوتين برسم خريطة سياسية جديدة للعالم، لذلك فإنها المرّة الأولى التي تجرى فيها هذه المفاوضات بعيداً من العواصم الأوروبية، ولهذا الأمر دلالات كثيرة. وشكلت محادثات آستانة امتحانين بالنسبة الى روسيا، الأول هو جدّيتها بإنهاء «النزاع السوري» وإيجاد حل من خلال عملية آستانة، أما الثاني فهو مدى تأثيرها على حلفائها داخل سورية، والامتحان الثاني لا بد من أن يمر عبر الامتحان الأول لأن قدرة روسيا في التأثير على حلفائها داخل سورية ترتبط بمدى جدّيتها بالوصول إلى حل للوضع في هذا البلد. في المحصلة إذا انهارت عملية آستانة، ستقع اللائمة على روسيا، اللاعب الأكبر وسيؤخذ على موسكو أنها لم تؤثر في حلفائها على أكمل وجه. بعد أن لعبت روسيا دوراً عسكرياً في قلب موازين القوى على الساحة السورية، دخلت أيضاً على خط التسويات والمفاوضات السياسية، وسط غياب غربي أميركي فاعل، وآخرها إعلان الرئيس الاميركي دونالد ترامب، أواخر الشهر الماضي، وقف دعم المعارضة السورية العسكرية، الأمر الذي اعتبره كثيرون تسليماً لملف سورية تماماً للقبضة الروسية، بل ذهب سيناتورات ومسؤولون أميركيون إلى اعتبار ذلك «خطراً يمس المصالح الأميركية برمتها في الشرق الأوسط». وتتزايد تدريجياً مناطق «خفض التصعيد»، في أكثر من منطقة سورية، وإذا نظرنا في شكل آخر، نرى أن كل المنابر التي تجرى فيها محادثات دولية حول سورية، كانت بمبادرة روسية، من جنيف وصولاً إلى آستانة، ولا يمكن إغفال حقيقة اختلاف نظرة كل من موسكووواشنطن للحل في سورية. فالروس يؤكدون حرصهم على وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية، في حين أن طريقة واشنطن في التعامل مع هذا الملف، منذ البداية، تثير الكثير من التساؤلات، وليس آخرها اختيارهم مجموعة انفصالية ودعمها بدلاً من المعارضة التي تصفها هي بالمعتدلة. يبقى القول، إن مناطق خفض التوتر، المستفيد الأول والأخير منها هو المواطن السوري، فقوات النظام، مع الدعم الروسي وضعف القوى المعارضة، بالإضافة الى تشتتها، تجعل أي معركة قادمة معروفة النتائج مسبقاً،كما قد تكون هناك إيجابية أخرى لاتفاق «خفض التصعيد»، وهي إنقاذ بعض تلك المناطق من تقدم الميليشيات الانفصالية والسيطرة عليها، بعيداً من إرادة الفريقين السوريين (نظام او فصائل)، او حتى سكانها الأصليين.