من المفارقات المثيرة للعجب والسخرية في آن معاً، الاستمرار في مفاوضات آستانة تحت رعاية روسية– إيرانية– تركية، في الوقت الذي تشارك الدول الثلاث في العمليات العسكرية الدائرة على كل الجبهات داخل سورية. وفي ظل الأدوار المكشوفة في مجريات الحرب السورية للقوى الثلاث، فإن الخطط لإيجاد مناطق «لخفض التوتر» على أربع جبهات سورية – والتي جرى اقرارها في السادس من أيار(مايو) الماضي، لن تتحقق على الأرض، من خلال الجهود المبذولة في مفاوضات «آستانة -5». كان الجيش السوري أعلن يوم الإثنين الثالث من تموز (يوليو) عن وقف جميع عملياته القتالية في الجهة الجنوبية، وذلك في خطوة وصفتها القيادة العامة في دمشق بأنها تهدف الى دعم مفاوضات آستانة وجهود المصالحة. بعد ساعات قليلة من هذا الإعلان تجددت العمليات العسكرية بكل الأسلحة – كما عاود الطيران السوري قصفه المدمر على درعا البلد وجميع المناطق والبلدات المحيطة. يذكّر هذا الإعلان الرسمي بوقف العمليات في الجبهة الجنوبية بالتصعيد الذي شهدته درعا بعد انتهاء مفاوضات «آستانة – 4» والتي استعمل فيها النظام كل أنواع القصف الجوي والبري للمدينة من أجل تسهيل تقدم قواته البرية داخلها والوصول الى الحدود مع الأردن. من هنا فإنه يمكن النظر الى قرار وقف العمليات الأخير بأنه جزء من مناورات النظام الإعلامية من أجل إرضاء حليفه الروسي، وعلى أساس أنه الراعي الأساسي للمفاوضات من جهة، ولتسهيل مشاركة المعارضة في هذه الجولة الجديدة من جهة ثانية. ولا يمكن في هذا السياق إغفال مشاركة الطيران الروسي بكثافة في كل المعارك التي خاضها النظام ضد المعارضة في الفترة الفاصلة ما بين «آستانة – 4» و «آستانة – 5»، بما فيها في عمليات القصف التي شهدتها الجبهة الجنوبية ومدينة درعا. مقاطعة آستانة استدعت المشاركة الروسية الكثيفة في عمليات الجبهة الجنوبية خلال الفترة الماضية، إضافةً الى عمليات القصف على جبهات أخرى إعلان بعض فصائل المعارضة مقاطعتها لمفاوضات «آستانة – 5»، إضافةً الى رفض موسكو الضغط على النظام السوري والميليشيات الإيرانية لاحترام وقف إطلاق النار العام الذي جرى اقراره في آستانة أيضاً. لكن يبدو بأن مناورة النظام، المبنية على توجيهات روسية من أجل تسهيل عودة كل أطراف المعارضة الى طاولة المفاوضات لم تنجح في تحقيق أهدافها – إذ أجبر النظام على الكشف عن نياته الحقيقية بعد ساعات قليلة من إعلان وقف النار. تمثل التطور الأبرز والأخطر خلال الفترة التي سبقت انعقاد «آستانة – 5» في الإتهامات والتحذيرات التي وجهتها الإدارة الأميركية الى النظام السوري على خلفية توافر معلومات «مؤكدة» عن تحضيرات يجريها النظام لشن هجوم كيماوي جديد ضد المعارضة. وتحدثت المعلومات الأميركية في شكل دقيق عن تحضير طائرة في إحدى القواعد الجوية لتنفيذ الهجوم. وكان اللافت في الأمر مسارعة روسيا الى نفي التهمة عن حليفها بشار الأسد، والقول إن الولاياتالمتحدة تبحث عن عذر لتوجيه ضربة جديدة للنظام، كما أنها تعطي الفرصة للمعارضة لاستغلال هذه الاتهامات من أجل شن هجوم كيماوي وتوجيه التهمة للنظام. السؤال الكبير المطروح الآن يتركز على مدى جدية روسيا ومعها إيرانوتركيا في تحقيق وقف لإطلاق النار، وإنشاء أربع مناطق «مخفوضة التوتر»، وحراسة مداخلها بواسطة قوات خاصة من الدول الثلاث مع مشاركة أميركية– أردنية في إحدى هذه المناطق. في ضوء تعقيدات الأوضاع السياسية والميدانية داخل سورية وفي الدول المجاورة، وعلى ضوء التجارب الماضية لنقض كل التعهدات المعطاة من قبل روسياوإيران بممارسة الضغوط اللازمة على نظام الأسد للإلتزام بوقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية، فإنه من المستبعد أن تنجح قرارات آستانة في ضبط سلوكيات النظام وحلفائه، إضافة الى سلوكيات مختلف فصائل المعارضة مع «أجنداتها» المتناقضة لاحترام قواعد الاشتباك الخاصة بمناطق «خفض التوتر» المقرر إقامتها. أهداف متباينة تؤشر أية قراءة واقعية وجيوستراتيجية لأهداف ووجود وانتشار القوات التابعة لكل من روسياوإيرانوتركيا والنشاطات العملانية لهذه القوات بأن الدول الثلاث تسعى من خلال انتشارها في مناطق «خفض التوتر» المقررة اقتطاع منطقة نفوذ خاصة بها، وهذا ما يؤكده اهتمام كل من روسياوإيران بحراسة المنطقتين المحيطيتين بدمشق وفي منطقة حمص الشمالية، في الوقت الذي ترغب تركيا بتوسيع نفوذها الى خارج المنطقة الممتدة ما بين جرابلس والباب وإعزاز في ريف حلب الشمالي لتمد انتشارها الى محافظة إدلب المتاخمة لحدودها. في الوقت الذي ترغب فيه تركيا بفرض نفوذها على شريط متاخم لحدودها في محاولة لتأكيد رغبتها في منع قيام أي إقليم كردي مستقل، فإن روسياوإيران ترغبان في توسيع نفوذهما في مناطق «سورية المفيدة»، خصوصاً في ضواحي دمشق ووسط سورية ومنطقتي تدمر ودير الزور الغنيتين بالغاز والنفط والفوسفات، واللتين تشكلان منفعة اقتصادية حيوية لكل من الدولتين. يبدو أن بعض أطراف المعارضة العسكرية أدركوا أن مفاوضات آستانة باتت تستعمل كوسيلة لتعطيل المحادثات التي ترعاها الأممالمتحدة في جنيف والتي تستند إلى وثيقة جنيف الأولى التي وضعها كوفي أنان، وعلى المبادئ التي اعتمدها مجلس الأمن في قرارته الخاصة بالأزمة السورية. كما يعتبرون أنه لا يمكن القبول بإيران كوسيط في أية مفاوضات أو ضامن لأية اتفاقيات خاصة بمناطق «خفض التوتر» وعلى أساس أنها تشكل دولة عدوة للمعارضة وللشعب السوري على حد سواء. وكان من سوء طالع الدول الثلاث الراعية لمفاوضات «آستانة -5» بأن بداية الاجتماعات قد اصطدمت بالتقرير الصادر عن الهيئة الدولية لمنع الأسلحة الكيماوية، حول الهجوم الذي شنه النظام على خان شيخون في نيسان (أبريل) الماضي، حيث أثبتت التحقيقات المجراة من المحققين التابعين للهيئة مسؤولية نظام الأسد عنه. وسارعت روسيا مرة جديدة لاتهام لجنة التحقيق الدولية بالانحياز وعدم الاستقلالية. في ظل التعقيدات الدولية والإقليمية الراهنة، وفي غياب بلورة إدارة الرئيس دونالد ترامب لإستراتيجية واضحة تجاه الأزمة السورية فإن أية قراءة موضوعية للتحركات الروسية الديبلوماسية سواء في مفاوضات آستانة أو في جنيف تؤدي الى الإستنتاج بأنها «لعب في الوقت الضائع» وبأنه لن يكون في وسع روسيا ومعها إيرانوتركيا تحقيق أي تقدم يذكر باتجاه الحل السياسي أو باتجاه تحقيق وقف لإطلاق النار يفتح في المجال لإقامة مناطق آمنة على الأرض السورية. يدرك الأميركيون ومعهم أوروبا بأن موسكو باتت تواجه أخطاراً من أن تتحول أسيرة مواقف كل من دمشق وطهران، اللتين ترغبان في الاستمرار في تحدي واشنطن وسياستها في الحرب على الإرهاب، ودعمها وحمايتها لحلفائها في قوات سورية الديموقراطية في الشمال والجيش الحر في قاعدة «تنف» والجبهة الجنوبية. وتتسبب علاقات روسيا بالنظام السوري وإيران بتعقيدات جديدة في العلاقات مع الولاياتالمتحدة، والتي يبدو أنها مستمرة في استراتيجيتها الراهنة على أمل أن عامل الزمن سيكون لمصلحتها، وسيؤدي الى مزيد من الغرق الروسي في رمال الأزمة السورية. * باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية