يندرج الحديث عن الاستشراق والمستشرقين ضمن سياق عام أثار نقاشاً مستفيضاً منذ أمد بعيد، ويتناول في ما يتناول العلاقةَ بين الغرب والشرق في أبعادها المختلفة، وخصوصاً مع النظرة النمطية التي أشاعها كثير من علماء الغرب ومفكريه خلال فترة طويلة وزرعوها في وعي الشعوب الباطن، بتصويرهم هذين الكيانين الحضاريين مفترقَيْن تماماً ولا يجتمعان أبداً، من منطلق أن «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» وفق مقولة أطلقها الشاعر الإنكليزي روديارد كيبلينغ في نهاية القرن التاسع عشر، مقدِّمين صوراً عن الشرق والشرقيين قوامها التخلف الحضاري والإغراق في التأمل الحالم والرمسنة (الرومانسية) والإيمان بالخرافة والأسطورة، في حين جعلوا الغرب منطلق التحضر والتمدن ومنبع التفكير العقلاني والعلم والعمل والإنتاج. لكن اتجاه أوروبا هذا ما لبث أن أثار حفيظة بعض رجالاتها العقلانيين الموضوعيين، ممن برزوا في مجالات الفكر والأدب وغيرهما، فبادروا إلى إعلان رفضهم قبوله بعجره وبجره، مؤكدين أن طرفي العلاقة التفاعلية الحضارية العظيمة بين الشرق والغرب متكاملان على نحو جدي، بحيث لا يجب أن يُتصور غرب من دون تأثر بالشرق، أو شرق لم يتخذ الغرب ورجالاته نبراساً للتقدم، فكرسوا تياراً فكرياً بالغ الأهمية في الغرب، يعي أهمية الآخر ويدنو منه ويفنِّد أقواله ويسبر أغواره لأنه يعتبره مكملاً له ومرآته الناقدة، ويسعى معه إلى وجود مشترك لا تنفي الذاتُ فيه الذاتَ الأخرى، مع بقاء كلٍّ على عقيدته، في هوية مشتركة تتسم بالديناميكية النسبية المتغيرة المشروطة بالتعدد في نواة الذات الواحدة، ماضياً وحاضراً وإمكاناً مستقبلياً، كما يقول إدوار سعيد إنها «وعي الذات أهمية الآخَر وضرورته بالنسبة إلى وجودها». وأرجع بعضهم ظهور الاستشراق إلى الحروب الصليبية مع المسلمين، وزعم مؤرخون ودارسون آخرون أنها نتاج البعثات التبشيرية التي وجهها الأوروبيون إلى الشرق منذ بواكير عصر النهضة وأوائل القرن التاسع عشر، بالتزامن مع ظهور الحركة الكولونيالية وخروج الأوروبيين من حدود قارتهم لغزو أماكن أخرى في آسيا وأفريقيا، ما يسلط الضوء -شأن هذا المقال- على أهمية الجيل المستعرب الذي برز بعد الاستعمار منتقداً هيمنة الغرب ونقائضه ونقاط ضعفه وقصور الاستشراق التقليدي وأدواته ومناهجه. إن أهمية هذا البحث هي في الإضاءة على أهمية الاستشراق الإسباني وكيف وضع بين أيدينا نوادر الكتب والمخطوطات التي لولا رجالاته لم نكن لنعرفها. في المقابل، لم يخلُ الأمر من مستشرقين إسبان حاقدين، دسوا السموم وشوهوا حقيقة الإسلام والشرق وطمسوها ظلماً وعدواناً. ومن أهم المستشرقين الإسبان الذين تناولوا بموضوعية وتجرد فترة الوجود الإسلامي في الأندلس، بيدرو مونتابيث، الذي أكد أن شبه الجزيرة الإيبيرية ما كانت لتدخل التاريخ الحضاري لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظل الإسلام وحضارته (من عام 711م إثر دخول المسلمين إليها بقيادة طارق بن زياد وضمّها إلى الخلافة الأموية حتى سقوط مملكة غرناطة عام 1492)، وأنها كانت باعثة خلال الحكم الإسلامي للنور والثقافة إلى الأقطار الأوروبية المجاورة، مضيفاً أن طرد المسلمين من الأندلس شكَّل خسارة مؤلمة لهذه المنطقة. ويقول الكاتب الإسباني أنطونيو غالا، وهو معروف بتعاطفه مع الثقافة العربية والإسلامية، إن «سقوط غرناطة حوَّل إسبانيا فقيرة ومنعزلة قروناً، وأصبحت الدول المسيحية التي توالت على حكمها هرمة بعد أن أفلت شمس الحضارة السامية العربية الإسلامية وانتهى عصر الحكمة والثقافة الرفيعة والذوق والتهذيب». ويذهب الباحث المغربي المهتم بالدراسات الاستشراقية الإسبانية محمد عبد الواحد العسري، إلى أن «فكرة الذات أو الأنا في الفكر الأوروبي لا تقوم ولا تكتسب معناها إلا في مقابل مفهوم الآخر». ومن أهم المستعربين ذوي الأقلام البيضاء في الثقافة العربية والإسلامية في الأندلس إلى وقت سقوط غرناطة في أيدي المسيحيين، ميغيل أسين بلاثيوس، الذي تركّز أبرز ما قام به من أبحاث حول مساهمة التراث العربي الإسلامي وتأثيره في الثقافة الأوروبية قديماً وحديثاً، وكان له انخراط قوي في ميادين الأدب والتاريخ واللغة والتصوف والفلسفة وأثر الإسلام في المسيحية والفكر والأدب الأوروبيين، وخصوصاً التراث الفلسفي والفكري العربي في بلاد الأندلس، بوصفه جزءاً لا يتجزأ من تاريخ هذه البلاد، واهتم بلاثيوس منذ بداية شبابه بشخصية أبي حامد الغزالي وتوجُّهها الروحي والفكري، فقد نشر سلسلة مقالات عام 1902 بعنوان «علم النفس الإيماني بحسب الغزالي» في مجلة «أراغون»، كما نشر بحثاً عن نفسانية الوَجد الصوفي لدى الغزالي وابن عربي في الثقافة الإسبانية. ومن أهم كتبه وأبرزها «معلومات عن حياة ابن عربي مستمدة من رسالة القدس» في التصوف، «مذهب ابن عربي في التوحيد ونظرته إلى الكون»، حاول فيها تأكيد التأثير الإسلامي القوي في التصوف الإسباني المسيحي خلال عصر النهضة. ومن أبرز مفكري الإسلام الأندلسيين وأدبائه وفقهائه الذين حظوا باهتمام بلاثيوس، ابن حزم القرطبي الظاهري، وكتب فيه: «عدم الاكتراث بالديانة في إسبانيا الإسلامية بحسب رأي ابن حزم مؤرخ الأديان والمذاهب في الثقافة الإسبانية»، «ابن حزم القرطبي أول مؤرخ للفكر الديني» و «الفصل بين الملل والأهواء والنحل» الذي أرّخ فيه لمختلف المذاهب والأديان والعقائد، بدءاً من الإلحاد المطلق إلى إيمان العوام، إضافة إلى دراسته عن كتاب ابن حزم «طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف»، اعتماداً على مخطوطة الكتاب الوحيدة في إحدى مكتبات هولندا العريقة. وكتب بلاثيوس سلسلة مقالات عن مفكرين مسلمين، مثل ابن باجه السرقسطي وابن طفيل وابن رشد، وتأثير الأخير في بعض اللاهوتيين المسيحيين، وبخاصة مداخلته في تكريم المستعرب الإسباني الكبير فرانسيسكو كوديرا عام 1904 بعنوان «الرشدية اللاهوتية عند القديس طوماس الإكويني»، إضافة إلى بحثه عن تأثير المتصوف الأندلسي ابن عبّاد الرندي الشاذلي في القديس يوحنا الصليبي منطلقاً من ملاحظاته التشابه الكبير بين مذهبيهما في التصوف. وإضافة إلى هذا كله، ساهم بلاثيوس في التعريف بالمخطوطات العربية الموجودة في الجبل المقدس في غرناطة والتي نشرت في مجلة مركز الدراسات التاريخية لإمارة غرناطة عام 1912، إضافة إلى دراسته «التأثيرات الإنجيلية في الأدب الديني الإسلامي» التي أثبت فيها تفاعلية العلاقة بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية وأنها لم تكن من جانب واحد فقط. ومن الكتابات التي كرسها بلاثيوس لإثبات تأثير الإسبان بالأدب والفكر الإسلاميين روايته «حمام زرياب»، كما كان أبرز ما كشفه في بحثه «المؤثرات الإسلامية في القديس طوماس الأكويني وتورميذا وباسكال وسان خوان دي لاكروت» (1941) هو سرقة الثاني -وكان أسلم في تونس- بعض ما ورد في رسائل إخوان الصفا وعزْوُه إلى نفسه. وأهم أعمال بلاثيوس: كتابه «الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية»، الذي وصفه عبد الرحمن بدوي ب «القنبلة الكبرى»، لأنه أثبت فيه تأثر الشاعر الإيطالي الكبير دانتي في ملحمته «الكوميديا الإلهيه» بالإسلام، وتصويره العالم الآخر، بفردوسه وجحيمه، انطلاقاً مما ورد في القرآن عن الإسراء والمعراج، وبما في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، التي تصور رحلة متخيلة إلى العالم الآخر في قالب قصصي، وبما في بعض كتب ابن عربي، ولا سيما «الفتوحات المكية». لم يكن بلاثيوس في الحقيقة أول من أثار مسألة التشابه بين كوميديا دانتي والتصويرات الإسلامية للدار الآخرة، بل سبقه آخرون غرباً وشرقاً، منهم المستشرق الفرنسي بلوشيه، الذي كتب مقالاً عام 1901 بعنوان «المصادر الشرقية للكوميديا الإلهية»، ومنهم سليم البستاني في مقدمة ترجمته «الألياذة» (1904)، التي أجرى فيها مقاربة بين «رسالة الغفران» و «الكوميديا الإلهية» خلص فيها إلى تأكيد رأي بلوشيه عينه. ويذهب واشنطن إرفينغ في كتابه «أخبار سقوط غرناطة» (جزآن) إلى تسجيل مسببات انحطاط الدولة العربية في الأندلس بدقة كبيرة، لكن اللافت فيه إعجابه بفتح المسلمين الأندلس، وبنائهم إمبراطورية إسلامية لا ترقى أي من إمبراطوريات العالم المسيحي إلى منافستها، لأنها نشرت ضياء المعرفة الشرقية عبر الأقاليم الغربية لأوروبا المظلمة، ويذكر عدداً من الظواهر الاجتماعية في إسبانيا ما قبل الفتح العربي في ظل الحكم القوطي، وما أدخله الفاتحون العرب إليها من أخلاقيات وفروسية ساهمتا في تطوع أعداد كبيرة من الإسبان لمساعدة الفاتح العربي على إخضاع شبه جزيرة إيبيريا، منهم على سبيل المثال الكونت جوليان، الذي يقال إن ابنته كانت ضحية اغتصاب ملك إسبانيا، وللانتقام من هذا الملك الطاغية الخالي من الأخلاق قرر، بالتعاون مع رئيس كهنة أوباس، مساعدة الفاتح العربي، كما يذكر إرفينغ فحش هنري الثاني ملك إنكلترا المتعدد الزوجات والشهواني، ما يشير إلى مدى تراجع الأخلاق الذي كان سائداً في إسبانيا القوطية، والذي يتناقض مع أخلاقيات الكنيسة الكاثوليكية. ويُرجع إرفينغ انتصار الفتح العربي الإسلامي في الأندلس إلى سببين: تفوق الفروسية العربية على الفروسية الأوروبية في العصر الوسيط. وثانياً نقل حضارة شرقية مستنيرة إلى الغرب المظلم. ويذكر أن طمع الغزاة العرب بإسبانيا لم يكن بهدف الاستعمار وإبادة الشعوب وإحلال أخرى بها، بل على العكس، كان لحماية الشعوب والحفاظ على أهلها وأبنائهم وأموالهم، وجسد حالة من العطاء الثقافي والسياسي والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، ولم يكن كاستحواذ المهاجرين الأوروبيين على القارة الأميركية على حساب سكانها الأصليين الهنود الحمر وإبادتهم وتطهيرهم عرقياً، ما خلق توازناً بين ثقافتي البلاد الفاتحة والمفتوحة وإنتاج ثقافة ثالثة هجينة قدمت للعالم حضارة عظيمة، وهو لم يغتصب أوروبا، بل مثّل إضافة إلى الحضارة الغربية وتمازجاً بين شعبين ونقلاً ثقافياً سلساً ساهم في ولادة شعب جديد ساهم في تشييد صرح حضارة مجيدة. إن هدف مقالتنا من استحضار الشق الاستشراقي من تاريخ الأندلس هو إطلاع القارئ على مساهمة الفتح العربي في تعزيز ثقافة الآخر لتطوير الذات المشتركة الوليدة، واستيلاد مجتمع غربي «ثالث»، لا هو بالشرقي ولا الغربي، أبدع في فهم حاجة الآخر واعتباره جسر امتداد له ومرآته التي تعكس حاجاته الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية، فالإسلام ليس عقيدة أو أيديولوجيا قائمة على الإقصاء، بل على العكس، إذ ينص القران الكريم في آياته في شكل واضح وصريح على الوحدة الإنسانية والمساواة ومبدأ الحرية والحوار والتعارف، من أجل تحقيق التفاعل والتكافؤ والتواصل بين الناس بعيداً من منطق الاستعلاء ومركزية الأنا، فهو يحرم الإكراه، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ورسالة الإسلام الأساسية إلى الناس جميعاً هي التعارف والتعايش بينهم أياً كانت ألوانهم أو ألسنتهم أو أعراقهم، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، ويعتبر أن لكل أمة معتقدها (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ)، كما أنه يعتبرهم متساوين (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)، ونص على كرامة الإنسان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ). أما اليوم، فإن ما تعاني منه الأمة الإسلامية، وخصوصاً الشعب العربي، هو الشعور بالنقص والدونية والانهزامية، والشعوب مطالبة بالعمل على تحديد هويتها وطبيعة علاقتها مع الأمم الأخرى، فلقد عادت مجتمعاتنا إلى الجهل بالآخَر. إن التأصيل لمفهوم الآخر اليوم معتمد على الصراعات القائمة في بلاد المسلمين، فالاحتلال والعدوان والإرهاب باسم الدين وفوبيا الإسلام وفوبيا المسيحية وزرع العدو الصهيوني في فلسطين واعتداءاته على أراضي العرب... إضافة إلى ما تراكم في الذاكرة الجمعية من ذكرى الحروب الصليبية وهزيمة المسلمين في الأندلس وحملة بونابرت على مصر وبلاد الشام وسيطرة فرنسا وبريطانيا على عدد كبير من أقطار السلطنة العثمانية وتسليم فلسطين إلى إسرائيل... كلها شوهت المفهوم الإسلامي النقي إلى الآخَر، وزاد الأمر تشويهاً تعامل الغرب مع الشرق اليوم بمنطق السيد والعبد وبمنطق الفوقية والدونية، في حين يكمن العلاج في الحوار الحقيقي لثقافة الآخر وعدم الاستكبار.