في الأعوام الأربعة الأخيرة رحل عن عالمنا ثلاثة من كبار أعمدة «المدرسة المصرية في الدراسات الأندلسية» هم: العلامة محمود علي مكي (1348 - 1434 ه / 1929 - 8 أغسطس - آب - 2013)، والدكتور أحمد مختار العبادي (20 نيسان - أبريل 1922م - 23 نيسان 2016 م)، وأخيراً عميد الأدب المقارن الدكتور الطاهر أحمد مكي (7 نيسان 1924 - 5 نيسان 2017). صحيح أن هؤلاء جميعًا عمروا طويلاً، وخدموا التراث لأكثر من نصف قرن، لكن الساحة تكاد تبدو فارغة بحيث يصعب الحديث عن جيل لاحق يسد الفراغ الهائل الذي خلّفوه في المشرق والمغرب على حد سواء. والواقع أن المدرسة التاريخية المصرية في الآداب الأندلسية تعدُّ من أكبر المدارس الفكرية وأكثرها اهتماماً ومعرفة بالتاريخ الأندلسي. وتوزَّع اهتمام روادها الأوائل ما بين البحث والتَّحقيق والترجمة، وتليها في ذلك المدرسة المغربية الأندلسية التي جاء اهتمامها بتاريخ الأندلس نتيجة طبيعية للعلاقات التاريخية ما بين العدوتين. ومع ذلك؛ تفردت المدرسة المصرية بتخريج نخبة عظيمة وكبيرة من أبنائها ممن اهتموا بتاريخ الأندلس وحضارتها حتى غدوا فيه من الموسوعيين؛ وفي مقدّمهم: حسين مؤنس، ومحمَّد عبداللَّه عنان، وشوقي ضيف، ومحمود علي مكي، الذين أثروا مكتبة التاريخ الإسلامي بالعديد من الدراسات التاريخية الأندلسية. امتد عطاء كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة لأكثر من نصف قرن من الزمن، وأصبحت كتاباتهم بمثابة المرجع الرئيس أو العمدة في بابها. ولا شك في أنّ اهتمام النخبة المصرية بالأندلس: تاريخًا وحضارة، فكراً وفلسفة، شعراً وأدباً، قديم جداً، وليس أدل على ذلك من أنّ رائد الوطنية المصرية؛ الزعيم مصطفى كامل، ألَّف مسرحية عن فتح الأندلس تحت عنوان: «طارق بن زياد وفتح الأندلس»، بهدف إذكاء روح الحماسة عند الشباب ومواصلة الكفاح ضد المستعمر الأجنبي. وكذلك الأمر بالنسبة الى أمير الشعراء أحمد شوقي الذي اختار إسبانيا أرضاً لمنفاه، عندما أجبره الإنكليز على مغادرة مصر إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى، على رغم أن ما أنتجه شوقي من شعر وهو فيها، كان - وفق محمود علي مكي - محدوداً جداً؛ بل وسطحياً، بسبب أنه كان مصاباً خلال السنوات الأربع التي قضاها قسراً هناك بحالة اكتئاب. وإلى جانب تأثير شوقي غير المباشر، ظهرت أعمال أخرى لدى المصريين ساهمت أيضاً في خلق اهتمام خاص بالأندلس، يذكر محمود علي مكي - في حوار أجراه معه الدكتور عبد الواحد أكمير - من بينها كتاب لأمير البيان شكيب أرسلان، يصف فيه غزوات المسلمين في الأندلس، وترجمة من الفرنسية إلى العربية أنجزها كامل الكيلاني لبعض فصول كتاب دوزي عن تاريخ إسبانيا المسلمة، ودراسة أخرى لعبداللَّه عنان، تعتبر في تقديره الأولى من نوعها التي أُنجزت باللغة العربية عن الأندلس، تتوافر فيها الشُّروط العلمية اللازمة. وإلى جانب هذه الدراسات ذات الطابع التاريخي، نقل بعض المهتمين بالمسرح، ملاحم الأندلس إلى خشبة المسرح المصري. وينتمي إلى جيل الروّاد هذا باحثان آخران: أولهما الدكتور حسين مؤنس الذي انصب اهتمامه في البداية على تاريخ الفتح العربي لبلاد المغرب، قبل أن يوسّع من دائرة اهتمامه لتشمل الأندلس اذ نشر مجموعة من الدراسات عن سقوط الخلافة الأموية بها. أما ثانيهما فهو عبد العزيز الأهواني الذي انصبّ اهتمامه على الأدب الأندلسي والذي يعتبر - وفق مكي - رائده الأول من دون منازع. وتعود بداية ذلك الاهتمام إلى عام 1938 عندما كلّفه عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة، الدكتور طه حسين شخصيًا، بتحقيق كتاب «الذخيرة» لابن بسَّام رفقة شابّين آخرين عُينا مثله معيدين في الكلية هما: خليل عساكر، وعبد القادر القط. وقد أصبح الثلاثة في ما بعد من كبار الباحثين، وإن كان الأهواني وحده ثبت في مجال الأندلسيات حيث أعدّ في جامعة القاهرة أطروحة ماجيستير حول «الموشّحات الأندلسية»، ثم أطروحة دكتوراه عن «الزجل في الأندلس»، كما اهتمّ بابن قزمان القرطبي؛ أمير زجَّالي الأندلس بصفة خاصة. ولد الطاهر أحمد مكي في عائلة تنتمي الى قبائل عرب المطاعنة في قرية كيمان المطاعنة التابعة لمركز إسنا في محافظة الأقصر في السابع من نيسان (أبريل) سنة 1924. التحق بالتعليم الأزهري فحصل على الابتدائية من المعهد الديني في قنا، ثم انتقل في المرحلة الثانوية إلى القاهرة حتى تخرجه في كلية دار العلوم سنة 1952. في عام 1961 حصل الطاهر مكي على درجة دكتوراه الدولة في الأدب والفلسفة بتقدير ممتاز في كلية الآداب في الجامعة المركزية بالعاصمة الإسبانية مدريد. وتوزعت أعمال الطاهر مكي، منذ بدايات اشتغاله بالأدب الأندلسي، على محاور ثلاثة: تأليفًا، وتحقيقًا، وترجمة. ولعل تحقيقه كتاب ابن حزم «طوق الحمامة» يعدُّ العمل الأبرز في هذا المجال اذ قدّم لنا جانباً أدبياً للفقيه الظاهري الأندلسي. كما حقَّق له أيضًا كتاب «الأخلاق والسير في مداواة النفوس». في مجال التأليف أولى الطاهر مكي عناية خاصة باهتمامه الرئيس؛ ألا وهو الأدب الأندلسي المقارن ومدى تأثيره وتأثره بالآداب الأخرى. وضمن هذا السياق أنجز العديد من المؤلفات القيمة في مقدّمها: دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة، دراسة في مصادر الأدب، الشعر الأندلسي في عصر الطوائف، دراسات عن ابن حزم وطوق الحمامة. وفي الأدب المقارن: دراسات نظرية وتطبيقية، دراسة في مصادر الأدب. إلى غير ذلك من الدراسات والأبحاث التي شارك بها في العديد من المؤتمرات العلمية. في حقل الترجمة ترجم الطاهر مكي كتاب المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال «الحضارة العربية في إسبانيا»، وكتاب «التربية الإسلامية في الأندلس: أصولها المشرقية وتأثيراتها الغربية» للمستشرق الإسباني المعروف خوليان ريبيرا إي تراجو الذي يصفه الطاهر مكي بأنه «كان أمّة في عالم الأندلسيات، ولم يكن مجرد مستشرق فحسب؛ وإنّما كان باحثاً عظيمًا، ومؤرّخًا قديرًا للثقافة الإسلامية». ويتضمن هذا الكتاب المهم ثلاثة فصول حول: «التعليم بين المسلمين الإسبان»، و «المكتبات وعشّاق الكتب في إسبانيا الإسلامية»، و «أصل المدرسة النظامية في بغداد». وأضاف إليها الطاهر مكي ثلاثة نصوص للقاضي أبي بكر بن العربي أولها من كتابه «أحكام القرآن» عن التعليم في المشرق، وثانيها من كتابه «العواصم من القواصم» عن التعليم في الأندلس، وثالثها من الكتاب نفسه عن الطريقة المثلى في التعليم. ترجم الطاهر مكي أيضًا كتاب فون شاك «الفن العربي في إسبانيا وصقلية»، وكتاب إميليو غرسية غومث « مع شعراء الأندلس والمتنبي: سير ودراسات»، وكتاب إنريك أندرسون إمبرت «مناهج النقد الأدبي». كما ترجم عن اللغة القشتالية «ملحمة السيد» التي تعدُّ أقدم نص في الأدب الإسباني، وهي لشاعر جوال مجهول. أخيراً يتضمن كتابه «دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة» بعض الفصول المترجمة، حيث ترجم دراستين لخوليان ريبيرا هما: «تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية وكتاب أخبار مجموعة لمؤلّف مجهول» و «الأصول العربية لفلسفة رايموند لوليو». وترجم للمستشرق الإسباني ميجيل أسين بلاثيوس دراسة مهمّة عن زاهد مدينة ألمرية «أبو العباس بن العريف وكتابه محاسن المجالس» الذي حقَّقه بلاثيوس في مدريد عام 1931. أمَّا الدراسة الثالثة المترجمة التي يتضمنها الكتاب؛ فهي للمستشرق الكبير أنخل جونثالث بالنثيا (1889- 1949) وعنوانها: «الشعر العربي وتأثيره في الشعر الأوروبي». أيضًا تضمن الكتاب دراسة رابعة للمستشرقة الإسبانية سوليداد خيبرت، أستاذة الأدب العربي في كلية الآداب في جامعة مدريد المركزية، عن ابن خاتمة شاعر مدينة ألمرية. وكانت حقَّقت ديوان ابن خاتمة، وترجمته إلى اللغة الإسبانية، وقدّمت له بدراسة ممتازة هي التي عرّبها الطاهر مكي في كتابه هذا نظراً «الى ما تتسم به من عمق التناول، ومنهجية البحث، وأناة في حل مشكلاته، وصبر دؤوب على تتبع قضاياه، وصدق وإخلاص جديرين بكل تقدير وإجلال». وفي الأخير يعترف الطاهر مكي بأن ثمة أخطاء عديدة وقع فيها الباحثون العرب في تصوراتهم ودراساتهم عن حضارة الأندلس، والأدب الأندلسي بصفة خاصة، كما وقع الباحثون الإسبان في عدد من الأخطاء المشابهة. يقول في تقديمه ل «ملحمة السيد»: «نهدف من وراء ترجمة هذا النص ودراسته إلى أكثر من غرض ... ومحاولة لإبداء رأي في ما أتصوره خطأ وقعنا فيه، وتسير عليه مدرسة الاستشراق الإسبانية؛ امتدادًا لتقاليد وليدة أيام متخلّفة، أعشاها التعصب. خطأُ الجانب العربيّ مصدرُهُ فكرةٌ تفرض نفسَها سلفاً على الدَّارسين بعامة، وفي حقل الأندلسيات على نحو خاص، وَهْمُ أنَّ المسلمين قدِمُوا شبه الجزيرة الإيبرية بشراً ولغة، فنونًا وعادات، فلم يجدوا أي شيء فوقها، ثم استقروا بمعزل عن غيرهم، وأنّ هؤلاء المسلمين كانوا كلّ عناصر الحياة عبر الأندلس كله، وعلى امتداد قرون تسعة، ثم خرجوا بعدها، أو أُخرِجوا، من دون أن يتركوا وراءهم أثراً يُذكَر». فإهمالُ دراسة الجانب المسيحي؛ وبخاصة في الجوانب الأدبية والثقافية والدينية، جعل الدراسات الأندلسية تقليدية في نظر الطاهر مكي؛ لأنه ليس بالإمكان دراسة الحضارة الأندلسية من دون الوقوف على ما كان يحدث في الجانب المسيحي منها، وماذا أخذوا عن مواطنيهم المسلمين وما الذي أعرضوا عنه...إلخ. والخطأ الثاني الذي يشترك فيه الإسبان والعرب على السواء، هو القول إنّ الصراع الذي دار على بطحاء الأندلس كان بين العرب والإسبان. وهو زعمٌ باطلٌ في رأي مكي حيث لم تكن ثمة قومية عربية، كما لم تكن القومية الإسبانية قد وُجدت إذ لم تُعْرَف كلمة إسبانيا بمعنى دولة إلا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، أما قبل ذلك فكانت تعني امتداداً جغرافيًا، ومكاناً محدّدًا من الأرض ليس إلا. كما أن سكان الأندلس لم يكونوا عربًا بالدم؛ وإنما كانوا خليطاً عجيباً لا يمثّل العرب في داخله إلا اليسير، أمَّا الكثرة الغالبة فكانت تنتمي إلى أقوام آخرين، من قوط ولاتين وفينيقيين، أو من بربر وأفارقة وصقالبة. ولم تكن الأندلس - أخيراً - مستعمرة تابعة للخليفة في دمشق إلا على امتداد خمسة وأربعين عامًا فحسب، وفي ما بعدها أصبحت دولة مستقلة. لقد كان المسلمون والمسيحيون، في الأندلس، يختلفون ظاهراً، وفي العمق بينهما الكثير المشترك. أمَّا تصوير العرب أنَّهم غزاة، وأنَّهم احتلوا إسبانيا، وأقاموا فيها مُحتلّين، حتى جمع الإسبان شملهم وألقوا بهم في البحر، فشيء صنعه رجال الدين الكاثوليك في ما بعدَ انتصار المسيحيين على المسلمين، عندما نشأت القوميات في أوروبا، ولم يعد الدّين يلعب الدور الأول أو الوحيد، ولم يعد كافيًا وحده لإثارة العامة، فاقتضى سدُّ المنافذ أمام الإسلام، بوصفه دينًا، أن يُصوَّرَ للجماهير على أنه دين العرب المستعمرين! وأرضتِ الفكرة، وصيغتْ في مهارة فائقة، الغرورَ العربيّ فاطمأن إليها، والحق أنَّ من يتتبَّع تاريخ الأندلس أيام المسلمين، فسيجد الصراع بين الطوائف، عنصرية أو طبقية أو دينية، لم يتوقَّف لحظة واحدة؛ لا عند المسلمين ولا عند المسيحيين، وتلك قضية أخرى!