تزدهر السياسة عندما تصير فعلاً خلافاً يمارسه الجميع في إطار ديموقراطي يهدف إلى إدارة وطن، بما يفترضه ذلك من خلاف ممكن، وتعدد مقبول في وجهات النظر، يخضع لتوافق وطني عام يفترض له أن يفرض منطقه، أي منطق الدولة ك «وطن يُظِلّ الجميع»، على منطق الفئة أو الطبقة أو الطائفة أو الإثنية أو جماعة المصلحة، أو حتى الكيانات السياسية الضيقة المحلية أو الإدارية، ولكن بعد حوار سياسي عام يتسم بالوعي والتحرر والمسؤولية، فالتعدد مطلوب ليكون ثمة «سياسة»، ولكن التوافق يبقى هو الغاية لتبقى هناك «دولة»، وبغير تعدد في إطار التوافق، إما أن تموت السياسة أو تذوي الدولة. وفي المقابل، تموت السياسة عندما تتحول إلى فعل إداري روتيني يومي يقوم على تنفيذ اللوائح وتمرير الأوامر من أعلى إلى أدنى، وتصدُّر القرارات الكبرى المصيرية التي تخص الوطن في غمضة عين، أو ظلمة ليل كالح، بعد فاصل من تصفيق حاد من نواب حزب حاكم وحيد أو مهيمن تصوت أغلبيته بشكل ميكانيكي، بلا حوار داخلي حقيقي، ولا تعاطف منها أو بعض فئاتها مع طروحات الأقلية ولو لمرة واحدة في أي قضية مهما كانت جماهيرية، رغم أن القانون، أي قانون، لا يعدو نوعاً من عملية تنظيم للحياة في كل مجال، ولا بد من أن يحظى بالتراضي العام، الذي يفرض على من يصدروه أن يراعوا مصالح جميع الأطراف المعنية به، وهو ما لم يتوافر لأي من هذه القوانين. ولأكثر من ثلاثين عاماً، بدت السياسة في مصر وكأنها قد ماتت، حيث قضت الدولة، بهيئاتها التنفيذية وأجهزتها الأمنية وبيروقراطيتها العتيقة، على السياسة كفعل خلاّق، وأبقتها، بل أذكتها كفعل روتيني، فلم يُرَدَّ - على سبيل المثال - قانون واحد أرادته الحكومة المصرية طيلة عقود طويلة من الزمن، ما يكشف عن مدى تغول الدولة على المجتمع، الذي هو قاعدتها الطبيعية، بينما تراهن وتداهن فئة محدودة من طبقة محدودة، هي طبقة رجال المال والأعمال، التي تحاول بهذا اصطناع قاعدة لها على حساب المصريين كلهم، فيما تختفي الطبقة الوسطى، وتذبل الزعامات السياسية التقليدية تحت ضغط الإقصاء واليأس لصالح جماعات مصلحة، هي خليط من الفساد والبيروقراطية والثروة، إذ تموت السياسة، وتنتفي الحرية، ولا يبقى سوى ثنائية السيطرة والإذعان. قد تكون العراقة الفريدة للدولة المصرية أمراً يثير الاعتزاز، فهي - بلا أدنى شك - أقدم دولة في التاريخ. وقد تكون عراقة الحضارة المصرية مصدراً للفخر، وكان طبيعياً، وربما إيجابياً، أن تبث هذه العراقة في ثنايا السياسة قدراً من الثقة لخوض تحديات التحرر وغمار المستقبل، من دون خشية التفكك أو الانفراط، لأن معاركها دوماً مع خارجها لا في داخلها، إذ تبلور الإحساس المصري التاريخي بالسياسة على نحو جمعي يحفزه الاهتمام بالقضايا العامة، كالاستقلال السياسي والشموخ العسكري والهوية القومية، وليس على أساس انقسامات أولية: جغرافية وعرقية ودينية، إذ لم تكد مصر تعرف مثل هذه التوازنات إلا مع الآخر خارجها، أياً كانت محددات غيريته، سواء كانت استعمارية كبريطانيا، أو استراتيجية كإسرائيل، أو حضارية كالغرب. ولكن عندما تستحوذ حكومة أو حزب «سياسياً» على عراقة دولة «حضارياً وتاريخياً» يصبح الخطر شديداً، إذ نجد لدى هذا الحزب أو تلك الحكومة من الثقة ما تستطيع به أن تعذب أهل الوطن من دون خشية، لأنها امتلكت قوة الدولة، وباتت تتصور أن لديها من الثقة والمنعة والرسوخ ما يعادل تاريخ الوطن، فهنا ينقلب التاريخ عبئاً، وتصير العراقة خطراً. وهنا تكمن أزمة مصر الحقيقية التي أودت إلى موت السياسة بها فيها، فالحكومة اختطفت الدولة، والدولة اختطفت التاريخ، وتغوَّلت على أهل الوطن، ورثة هذا التاريخ. وبمرور الوقت انطفأت الزعامات الكبرى التي توالت على مصر الحديثة، أقله منذ العصر الليبرالي وحتى نهاية عصر الرئيس السادات، وربما بدايات عصر مبارك، حين بدأ تأميم السياسة، وتجريف الساحة السياسية من قادتها ورموزها بفعل القمع، فتوقف الحوار الجاد حول الحاضر والمستقبل، وصارت مصر أشبه بجسد ضخم من دون رأس. في هذا السياق، لم يكن غريباً أن تأتي «انتفاضة الحرية» في مصر من خارج إطار النظام السياسي كله، بشقيه: الحكم والمعارضة، ذلك أن فكرة الإصلاح من داخل الحكم، والتي نادى بها بعض رموز الحزب الحاكم نفسه وقادته في السنوات الست المنقضية، والتي ادعاها بعض المنضمين إليه في تلك السنوات التي أعقبت تشكيل لجنة السياسات برئاسة جمال مبارك، تبريراً لانضمامهم إليه، وتحولهم إلى زبائن سياسيين له، ثبت خواؤها مراراً وتكراراً، إما لأن المنضمين من تلك النوعية تناسوا فكرة الإصلاح نفسها بمجرد دخولهم إلى الحزب، وبفعل المكاسب الزبونية التي حصلوا عليها فانشغلوا بها عما سواها، وإما لأن أصوات بعضهم، الأكثر إخلاصاً للفكرة، ضاعت في وسط الزحام وأمام ضغط التيار التقليدي الواسع، فلم يسمعهم أحد، لا داخل الحزب ولا خارجه، وإما لأنهم لم يكونوا مخلصين لها منذ البداية بل اتخذوها مطية لأحلامهم الشخصية. أما المعارضة المصرية، فقد تم تجريف قسم كبير منها بطول الوقت وتوالي القهر، مع غياب الأمل في أي احتمال لتبادل السلطة، ومن ثم ضمور النشاط والفعالية، حتى أنها أخذت تعاني الأمراض نفسها التي يعانيها النظام السياسي، فلا انتخابات داخلية، ولا تداول للقيادة الحزبية بين المتصارعين عليها، بل انقسامات، وصراعات ساخنة أو باردة تغذيها السلطة القائمة وأقطاب الحزب المهيمن في كل مرحلة من مراحل النظام، إلى درجة صاروا معها لاعبين احتياطيين، أو زبائن سياسيين للحزب الحاكم يسلكون حسب رؤاه وأوامره، ويلعبون في المساحة المخططة من قبله، كما تم تدجين قسم آخر فيها، بمنعه من التأسيس أصلاً، كالكرامة والوسط وغيرهما. وهكذا لم تكن المعارضة المصرية قادرة، لا الآن ولا في المستقبل المنظور، على أن تلعب دوراً حقيقياً ضد الحزب المهيمن، أو لصالح التغيير السياسي. وعندما استفاقت بعض تلك الأحزاب وحاولت استعادة دورها الحقيقي في النظام، كحزب الوفد مثلاً عندما انسحب من جولة الإعادة في انتخابات البرلمان الأخيرة احتجاجاً على تزويرها، واضعاً الحزب الحاكم في موقف حرج، كان الوقت قد فات، والعاصفة أوشكت على الهبوب من خارج النظام برمته. هبت العاصفة، من جيل شاب، استعمل ثورة التكنولوجيا، خصوصاً الشبكة العنكبوتية، وأدوات تفاعلها التواصلي، في الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير)، وهو يوم عيد الشرطة المصرية، الذي استحال يوماً للغضب عليها، بفعل ممارستها القمعية الشديدة لاحتجاجات كثيرة سابقة، سواء سياسية لنشطاء ونقابيين، أو مطلبية لفئات وقوى اجتماعية يقهرها الغلاء والفقر. وهنا وقف الجميع حائرين، فلا النظام توقّع العاصفة، ولا المعارضة توقعت حجمها، ولا حتى الشباب أنفسهم توقعوا مدى اتساعها ونجاحها الساحق على هذا النحو. وهكذا وقع الجميع في أزمة. أزمة النظام تمثلت في صعود قوة لم يتوقعها ولم يحسب لها حساباً جاداً، فإذا بها تهزمه وتكشف عجزه. والمشكلة الأكبر التي واجهته، بعد أن استوعب الصدمة وأخذ يعترف بقوة خصمه، أن قوة هذا الخصم هلامية/ زئبقية، تفر من بين يديه رغم حضورها المؤكد، فلا رأس لها يستطيع الوصول إليه لقمعه، أو مفاوضته، أو حتى لمساومته. أما أزمة المعارضة، فقد تمثلت في افتضاح أمرها وظهور هشاشتها قياساً إلى هؤلاء الشباب، ومن ثم لم يكن أمامهم سوى الالتحاق بهم، ومحاولة التعبير عنهم وتبني مطالبهم، في ظل تمرد أولئك الشباب وتمنعهم عليهم. وأما أزمة الشباب أنفسهم فمن طراز مغاير، وأفق مختلف، إنهم عاجزون عن تصور ما حققوه من إنجازات على الأرض، وبالأحرى هضم ما أنجزوه. إنهم يخشون على أنفسهم من التنكيل بهم من قِبَل أركان النظام، في ما لو بقى، وهم لذلك يصرون على رحيله وبسرعة، خشية انتقامه، من دون أي حسابات عقلانية، ناهيك عن انقسامهم الشديد، ورفضهم تفويض أي قوة سياسية للتحدث باسمهم، واعتبار ذلك سطواً على ثورتهم التي يصرون على طهرانيتها وبراءتها من أي انتماءات سياسية. هكذا تموت السياسة لدى الجميع: فالحكم أماتها ليحيا أطرافه على الدوام في قلب المشهد، احتكاراً للوطن والسلطة. والمعارضة أماتتها بفعل الإقصاء السياسي لها من النظام أحياناً، وأزماتها البنيوية وقصورها الذاتي أحياناً أخرى. وأما الشباب فيميتونها بداعي طهرانية حركتهم، وبراءة أفكارهم، وكأن السياسة رجس من عمل الشيطان، والأيديولوجيا مجرد أفكار نجسة يجب ألا يمسوها أو تمسهم. وإزاء هذا الغياب الطويل للسياسة، أو بالأحرى موتها، راوحت الأزمة المصرية في موضعها لأيام عدة، وبدا المشهد السياسي جامداً رغم صخب التظاهرات والتفاعل السريع في ساحاتها، قبل أن يلتحق الجميع بقطار المفاوضات بحثاً عن حلول، وهي حلول ربما تأخرت نوعاً ما قياساً إلى أهمية الحدث وسرعة فورانه، لأن البحث عن الحلول الوسطى الممكنة، كهدف للعملية السياسة برمتها، كفعل وممارسة، أو لعملية التفاوض بالذات، كان قد غاب عن الجميع، ولأن محاولة تحديد أطراف التفاوض أنفسهم قد استغرق وقتاً، بفعل طبيعة المفاجأة ومصدر العاصفة، التي كشفت في العمق فراغاً سياسياً يحتاج سريعاً إلى من يشغله. * كاتب مصري